فلسطين

استهداف الصحافيين في فلسطين: بين المعاناة والفرصة المؤلف: حياة الحريري \ المصدر: موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية

إنها الحرب الأكثر دموية على الصحافيين في غزة؛ وهو وصف أجمعت عليه، وللمرة الأولى، ربما كل المؤسسات التي تُعنى بحماية الصحافيين، العربية والغربية، فعلى الرغم من الانحياز الغربي إلى الرواية الإسرائيلية، أو بالحد الأدنى محاولات معظم المؤسسات الغربية التقليل من حدة اتهامها للاحتلال الإسرائيلي بارتكاب جرائم حرب وجريمة الإبادة الجماعية، فثمة حقيقة لا يمكن تجميلها؛ وهي أن إسرائيل قتلت منذ بداية عدوانها على غزة حتى تاريخ كتابة هذا المقال (9 شباط/فبراير 2024) ١٢٤ صحافياً، منهم من استشهد مع عائلته، بحسب ما أعلن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، وهو ما يشكل 8.5% من العاملين في قطاع غزة،[1] بالإضافة إلى جرح واعتقال العشرات. ولم يقتصر الاستهداف الإسرائيلي للصحافيين في هذه الحرب على غزة فقط، بل أيضاً طال جنوب لبنان، إذ قتل 3 صحافيين لبنانيين، وجرح عدداً منهم في استهداف متعمّد طالهم، وطال آخرين أكثر من مرة في أثناء تغطيتهم الاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان.

وطبعاً، لم تحاسَب إسرائيل على جرائمها حتى الآن، والتي لم تستهدف فيها فقط الصحافيين، بل أيضاً المواطنين المدنيين في منازلهم ومراكز نزوحهم، بالإضافة إلى استهداف المدارس والمستشفيات وفرق الإسعاف وسياراتها وكل ما يمكنه إسناد الشعب الفلسطيني في غزة، كشاحنات المساعدات الغذائية التي تدخل بصورة متقطعة، وبكميات ضئيلة بسبب الحصار الإسرائيلي على القطاع.

ويتناول هذا المقال استهداف الصحافيين في غزة، ويناقش فعل القتل المتعمد لهم، والأسباب التي تساهم في عدم محاسبة إسرائيل على هذه الجرائم، بسبب ضغط الدول الغربية أو المنظومة الدولية الحليفة لها، وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية وعدد من الدول الأوروبية.

قراءة في أسماء الصحافيين المستهدفين: فعل القتل المتعمد

لإسرائيل تاريخ طويل من استهداف الصحافيين في فلسطين، إلاّ إن التقارير والشكاوى المقدمة من مختلف المؤسسات الحقوقية والصحافية الفلسطينية والدولية تشير إلى ازدياد وتيرة استهدافهم بصورة غير مسبوقة منذ سنة 2021، ليتجاوز كل الحدود خلال العدوان الحالي على غزة، إذ تتواصل في غزة والضفة والقدس وتتزايد الاعتداءات الإسرائيلية، وتتنوع الانتهاكات بين قتل مباشر واعتقالات واحتجاز وعرقلة لحرّية ممارسة العمل الصحافي.

وفي العدوان الحالي على غزة، صرحت إسرائيل أكثر من مرة أنها لا تتعمد استهداف الصحافيين الفلسطينيين، وهنا طبعاً إسرائيل تتملص، في تصريحات كهذه، من مسؤوليتها عن القتل المباشر والمتعمد، وذلك ليس فقط بإلقاء التهمة عن نفسها، بل أيضاً بإعادة استحضار صورة الضحية التي أعطت نفسها إياها بكل الذرائع والحجج لاستعطاف العالم، على الرغم من كل الجرائم التي ترتكبها، منذ نشوء الكيان حتى يومنا هذا. وللمفارقة، فإنه عند اغتيال قوات الاحتلال الصحافية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، في 11 أيار/مايو 2022، قال إيتمار بن غفير، الذي يشغل حاليا منصب وزير الأمن القومي الإسرائيلي، في تغريدة له إنه يؤيد “إطلاق النار على كل صحافي يعيق عمل الجنود.”

وفي قراءة لطبيعة استهداف الصحافيين في العدوان على غزة وكيفية ذلك، يتبين بوضوح للقارئ فعل القتل المتعمد الذي يمارسه الاحتلال، والذي يُعد، بحسب القانون الدولي، جريمة حرب. وبحسب اللائحة المفصلة بأسماء الصحافيين الشهداء، والتي نشرتها كل من “لجنة حماية الصحافيين”[2] ومركز “المعلومات الوطني الفلسطيني “وفا” بين 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 (أي منذ بداية العدوان على غزة) و29 كانون الثاني/يناير 2024، فإنه يمكن تقسيم الاستهداف الإسرائيلي للصحافيين كالتالي:

عدد الصحافيين الشهداء باستهداف مباشر: 8 في أثناء التغطية الصحافية، و1 في سيارة الدفاع المدني، و3 في قصف على السيارة.

عدد الصحافيين الشهداء برصاص القنص: 3.

عدد الصحافيين الشهداء الذين استشهدوا بغارة إسرائيلية: 42.

عدد الصحافيين الذين استشهدوا باستهداف مباشر لمنازلهم: 22.

عدد الصحافيين الذين استشهدوا مع أفراد من عائلاتهم باستهداف مباشر لمنازلهم: 42.

أمّا في جنوب لبنان، فقد استشهد المصور الصحافي عصام عبد الله، من وكالة “رويترز”، والصحافية فرح عمر والمصور الصحافي ربيع المعماري، في 21 تشرين الثاني/نوفمبر، من قناة “الميادين”، باستهداف مباشر في أثناء تغطيتهم للاعتداءات الإسرائيلية في الجنوب.

وبحسب تقريرها السنوي سنة 2023،[3] فقد أشارت نقابة الصحافيين الفلسطينيين إلى وجود “عدد كبير جداً من الإصابات للصحفيين… وصفتها الطواقم الطبية بالخطيرة جداً… مما يتسبب بجروح قاتلة أو تخلف إعاقات واضحة… وأشار التقرير لوجود عدد كبير من الصحفيين المصابين الذين يحتاجون لعلاج غير متوفر في قطاع غزة.”[4]

ولا يقتصر استهداف الاحتلال المتعمد للصحافيين الفلسطينيين على قطاع غزة فحسب، بل أيضاً يطال العاملين في الضفة الغربية؛ فبحسب تقرير نقابة الصحافيين الفلسطينيين، فقد اعتقلت سلطات الاحتلال “نحو 58 صحفياً وصحفية منذ 7 أكتوبر في الضفة وغزة تخلل ذلك اقتحام المنازل وتحطيم الأثاث ومصادرة معدات وأجهزة الاتصال الخلوي الخاصة بالصحفيين مع اعتداء بالضرب عليهم وعلى أفراد عائلاتهم”،[5] بالإضافة إلى اعتداءات المستوطنين على الصحافيين بوجود قوات الاحتلال وحمايتهم لهم. كما أشار التقرير إلى تعرُض 80 مؤسسة صحافية وإعلامية للاستهداف بالقصف والتدمير الكلي والجزئي، وأيضاً بالاقتحامات ومصادرة المعدات، كما حدث في الضفة الغربية. ويجب أيضاً عدم إغفال احتجاز الطواقم الصحافية، ومنعهم من ممارسة عملهم، وتعرُضهم للتهديد الذي أشار إليه التقرير، إذ تم توثيق “314 واقعة في هذا المجال.”[6]

مسار قضائي معلَق

وفي معرض تنصُلها الدائم من المسؤولية والمحاسبة، صرحت حكومة الاحتلال أكثر من مرة بأنها لا تستطيع ضمان سلامة الصحافيين العاملين في قطاع غزة، وهو ما يُعد مخالفة واضحة للقانون الدولي الذي ينص على “ضرورة احترام وحماية الصحافيين من كل أشكال الهجوم المتعمَد”، والذي يؤمّن لهم الحماية نفسها المكفولة للمدنيين “طالما أنهم لا يشاركون مباشرة في الأعمال العدائية.” وتنص المادة رقم 79 من البروتوكول الأول الذي أُلحق باتفاقية جنيف لسنة 1949 على ما يلي:

“1- يعد الصحفيون الذين يباشرون مهمات مهنية خطرة في مناطق المنازاعات المسلحة أشخاصاً مدنيين… 2- يجب حمايتهم بهذه الصفة بمقتضى أحكام الاتفاقيات.”

منذ بداية العدوان على غزة، يحاول كل من الاتحاد الدولي للصحافيين، بالتعاون مع نقابة الصحافيين الفلسطينيين، وعدد من المؤسسات الحقوقية، إثبات ارتكاب إسرائيل الاستهداف المتعمد ضد الصحافيين العاملين في غزة، وتحريك الشكاوى المقدمة ضدها في المحكمة الجنائية الدولية منذ سنة 2022.

كما يعمل عدد من المؤسسات الدولية على الضغط والدفع من أجل مساءلة الاحتلال الإسرائيلي ومحاسبته على جرائمه؛ فعلى سبيل المثال، قدّمت منظمة “مراسلون بلا حدود” في 31 تشرين الأول/أكتوبر شكوى لدى محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل بتهمة ارتكاب جرائم حرب. وتجدر الإشارة إلى أنها المرة الثالثة التي تقدّم فيها المؤسسة شكوى ضد إسرائيل في السنوات الـ 6 الأخيرة، وكانت الأولى قد قدّمتها سنة 2018 خلال مسيرة حق العودة، والثانية سنة 2021 بعد أن قامت إسرائيل بقصف مقر أكثر من 20 مؤسسة إعلامية في قطاع غزة خلال عدوانها. كما دعمت “مراسلون بلا حدود” الدعوى المرفوعة في قضية اغتيال الصحافية شيرين أبو عاقلة،[7] والتي لم يتم محاكمة إسرائيل عليها حتى الساعة، على الرغم من كل الأدلة المثبتة على الاستهداف المتعمد والمباشر.

وعلى الرغم من أن إسرائيل تحاول، عبر استهداف الصحافيين، منع وصول الأخبار والحقيقة، فإن الصحافيين والناشطين في غزة ينجحون في توثيق الاعتداءات المتكررة والمتعمدة ضدهم، ولا سيما على وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، وهو ما يسمح بالضغط على المحكمة الجنائية الدولية لتحريك الشكاوى المقدمة ضد إسرائيل، وذلك بسبب جواز اعتماد الفيديوهات كأدلة، ولا سيما مع صعوبة جمع الأدلة في غزة، بسبب منع الاحتلال الطواقم الصحافية الأجنبية والأممية دخول غزة.

لماذا يتواطأ الغرب مع إسرائيل للإفلات من العقاب؟

يعتبر البعض أن إفلات إسرائيل من العقاب لدى استهدافها الصحافيين “لا يُضعف فقط صدقية الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط، بل أيضاً حرية الصحافة وسلامة الصحافيين في المنطقة.”[8] ولا يخفى على أحد التحالف العضوي والمتين جداً بين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، والذي يعود إلى ما قبل سنة 1948، إذ أصبحت أميركا الحاضن والمدافع الأول عن الكيان الإسرائيلي، والرافد الرئيسي له في كل الميادين الدبلوماسية والعسكرية والسياسية والمالية، وذلك لأسباب كثيرة لا يناقشها هذا المقال، ومنها على سبيل المثال لا الحصر؛ الدور التنفيذي الذي تؤديه إسرائيل كأداة استعمارية تؤمّن مصالح الولايات المتحدة الأميركية في تدمير ونهب الدول العربية. ومن هنا، فإن أميركا لم تحاسب إسرائيل يوماً، ولم تسمح لأي دولة أو جهة بالتلويح إلى مساءلتها على كل الجرائم التي يحاسب عليها القانون الدولي، والذي شاركت الولايات المتحدة نفسها في وضعه. ولهذا، فليس مستغرباً منها ألاّ تسمح بمحاسبة إسرائيل على جرائمها في العدوان الحالي على غزة، ولا أن تختلق الأعذار لتبرير هذه الجرائم، ومنها الاستهداف المتعمد للصحافيين.

فالولايات المتحدة الأميركية نفسها متورطة في جرائم استهداف الصحافيين في الحروب التي خاضتها، كالعراق على سبيل المثال لا الحصر؛ فبعد الاجتياح الأميركي للعراق سنة ٢٠٠٣، قال مراسل قناة “بي. بي. سي” البريطانية، جون سيمبسون، إن “استهداف الصحافيين أصبح السمة الجديدة للعمليات العسكرية الأميركية في العالم.” وكان نفسه قد أُصيب بما سماه “نيران صديقة” أميركية في شمال العراق في أثناء تغطيته قبيل الاجتياح الأميركي البرّي.[9] ويشرح الكاتب والأستاذ الجامعيّ كريس باترسون أن أحداثاً كهذه “باتت جزءاً من الاستراتيجيا العسكرية الأميركية منذ هجمات ١١ أيلول/سبتمبر، وهي تهدف قبل أي شيء إلى ضمان استجابة إعلامية متوافقة مع العمليات العسكرية الأميركية.”[10] وفي مراجعة لسياسة الاحتلال الإسرائيلي ضد الصحافيين بصورة عامة، والفلسطينيين بصورة خاصة، يسهل ويجوز إسقاط هذه الاستراتيجيا على الوضع الفلسطيني، فالهدف من استهدافهم المستمر في فلسطين لا يعكس فقط العقيدة الإجرامية التي قام على أساسها الوجود الإسرائيلي، ككيان محتل في فلسطين، بل أيضاً هو رسالة ممنهجة لترهيب الصحافيين وعائلاتهم، سواء أكان ذلك بالاستهداف المباشر أم بالتهديد والترهيب، وهو ما يساهم في منع وصول الحقيقة.

ولا تُظهر الشهادتان أعلاه اتهاماً مباشراً للولايات المتحدة بالاستهداف المتعمد للصحافيين فقط، بل أيضاً تفتح نافذة للنقاش بشأن فرضية أن الإدارة الأميركية، عبر منعها محاسبة إسرائيل على جرائمها في محكمتَي العدل والجنائية الدوليتَين، تحمي نفسها وعدداً من حلفائها من المساءلة والمحاسبة. ففي مؤتمر ضد الحرب، عُقد سنة 2010، صرح الجندي الأميركي السابق، إيثان ماكورد، بأن الإدارة الأميركية كانت تبلغهم أنه “إذا أطلقنا النار على الناس وتمّ التحقيق معنا، فإن المسؤولين سوف يهتمون بنا.”[11]

وقد تخطى عدد شهداء الصحافة في فلسطين خلال حرب الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة في أقل من شهرَين عدد القتلى الصحافيين خلال الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) التي فقد فيها 69 صحافياً حياته، وحرب فيتنام (1955 – 1975) التي فقد فيها 63 صحافياً حياته (الاحتلال الأميركي لفيتنام)، والحرب الكورية (1950 – 1953) التي فقد فيها 17 صحافياً حياته.[12]

وتستمر إسرائيل في استهداف الصحافيين في فلسطين وجنوب لبنان بحماية وتواطؤ دوليَين، وانحياز إعلامي غربي إلى الرواية الإسرائيلة. ويهدف هذا المقال ليس فقط إلى عرض سياسة إسرائيل ضد الصحافيين في فلسطين، بل أيضاً إلى فتح النقاش بشأن أسباب الحصانة الدولية التي يتمتع بها الاحتلال، ويطرح إمكان الاستفادة من تبدُل الرأي العام الدولي لمصلحة الرواية الفلسطينية من أجل تشكيل جبهة ضغط إعلامية لتحريك الشكاوى المقدمة ضد إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية. فعلى الرغم من الوضع الكارثي والواقع المأساوي الذي يعيشه الفلسطينيون في غزة بسبب ارتكاب إسرائيل جريمة حرب وجريمة الإبادة الجماعية، فإن الصحافيين الفلسطينيين لا يزالون يقاومون كل أشكال التهديد والترهيب والخطر الذي يتعرضون له، وذلك بالاستمرار في نقل الصورة المباشرة لجرائم إسرائيل، الأمر الذي يسمح بممارسة ضغط إعلامي وشعبي فعلي على مؤسسات القانون الدولي لمحاسبة إسرائيل، ولو بعد حين.

المراجع:

الخالدي، وليد. "تقسيم فلسطين من الثورة الكبرى 1937 - 1939 إلى النكبة 1947 - 1949" بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية،2021، ص338.

"تقرير الحريات لعام 2023". رام الله: نقابة الصحفيين الفلسطينيين، 4/1/2024.

"إسرائيل تحطّم رقماً قياسياً في قتل الصحافيين لم تسجله الحرب العالمية الثانية". "القدس العربي"، 4/12/2023.

Al Talei, Rafiah. “Israel's War on Journalists”. Carnegie Endowment for International Peace, 28/11/2023.

McLaughlin, Greg. The War Correspondent. London: Pluto Press, 2016, 2nd edition, p.288.

“Journalist casualties in the Israel- Gaza war”. CPJ, 13/2/2024.

المصادر:

[1] “تقرير الحريات لعام ٢٠٢٣”، رام الله: نقابة الصحافيين الفلسطينيين، 4/1/2024.

[2] “Journalist casualties in the Israel- Gaza war”, CPJ, 13/2/2024.

[3] تقرير نقابة الصحافيين الفلسطينيين، مصدر سبق ذكره.

[4] المصدر نفسه.

[5] المصدر نفسه.

[6] المصدر نفسه.

[7] Rafiah Al Talei, “Israel’s War on Journalists”, Carnegie Endowment for International Peace, 28/11/2023.

[8] Ibid.

[9] Greg McLaughlin, The War Correspondent, (London: Pluto Press, 2016, 2nd edition), p.288.

[10] Ibid.

[11] Ibid.

[12] “إسرائيل تحطّم رقماً قياسياً في قتل الصحافيين لم تسجله الحرب العالمية الثانية”، “القدس العربي”، 4/12/2023.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى