كي لا ننسى

الطريق إلى عتليت مذابح الأسرى العرب في حربي 56 و 67 – 34

الطريق إلى 60 هولوكست عربية

لا تتعلق قضية أسرانا في حروبنا مع إسرائيل بما مضى بقدر ما تتعلق بما هو آت. إن لم تكن جهودنا لتزكية دمائهم إنصافًا لهم فلتكن مثالاً للوفاء نضعه أمام أجيالنا القادمة إذا ما هي اضطرت يومًا ما إلى حمل السلاح دفاعًا عن دينها وأرضها وكرامتها. من حق إسرائيل أن تحاول دائمًا كسر شوكة الولاء في قلوب أبنائنا؛ ولهذا فإنها لا تريد حتى أن تقدم لنا اعتذارًا شفهيًا، لكن من حقنا- ولو أحيانًا- أن نقاوم. أو ليس الصلح إلا معاهدة بين ندين في شرف القلب لا تنتقص؟!!.. غاية المنتهى أن سيفًا أتاني من الخلف رأيته أنت ولم تهتف بي محذرًا سوف يجيئك من ألف خلف. فحين يتحمس عدوك للدفاع عن حقوقك أكثر من حماستك أنت للدفاع عن حقوقك، وحين تغض أنت الطرف طوعًا عن حقوقك التي اعترف لك بها عدوك لأنك تتطوع بالظن أن حماستك للدفاع عن حقوقك ربما تغضب عدوك، فلا بد أن ثمة شيئًا غير صحيح في طبيعة العلاقة وفي قوانين الطبيعة.
إذا كان جانب من الإسرائيليين يستحق اللعنة فإن جانبًا يستحق الشكر. فقط عندما فلتش موتي غاولاني في الوثائق السرية لوزارة الدفاع الإسرائيلية عام 1994.. فقط عندما اهتمت بالموضوع بعدها بعام كبريات الصحف الإسرائيلية بدأنا نحن نتحرك. أم ترانا تحركنا؟!
“أتدري شيئًا! لقد أثار رد الفعل المصري فضولي، لدي إحساس بأن الذي ضايقهم لم يكن حقيقة أن جنودًا إسرائيليين قتلوا  أسرى حرب مصريين. لقد كانوا على علم بذلك، ولم يكونوا بحاجة إلي أو إلى أي أحد آخر كي يخبرهم به. إننا- نحن الإسرائيليين- ما زلنا نبحث عن جثث جنودنا ورفاتهم في حرب 48، وهو شيء لا نجد مثيلاً له في العالم العربي، فماذا إذًا عساه يحدث لو طالب الشعب المصري حكومته بالبحث عن ذويه؟ ولذا لم ترغب الحكومة المصرية في سماع المزيد، وإنما قالت للحكوممة الإسرائيلية: (حسنًا، أعطونا تقريرًا تعترفون فيه بأنكم أشرار وبأنكم أخطأتم، ودعوا الأمر ينتهي)”.
اتصلنا بالسفير المصري في تل أبيب، محمد بسيوني. طلبوا أسئلة مكتوبة عن طريق الفاكس. بعثنا بها، ثم اتصلنا مرة أخرى. جاءنا الرد اعتذارًا عن عدم الحديث.
“هو نوع من العجز”، هكذا يقرر زعيم المعارضة المصري، ياسين سراج الدين، وهو يستطرد مندهشًا: “لو كنت مكانه لكنت أمسكت بربابة وجعلت من الأمر موالاً أطوف به العالم كله كي أحركه ضد إسرائيل على هذه الفعلة الشنعاء. إنما أنا أعتقد أنهم يطبقون المثل العامي (الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح). هو نوع من العجز.. العجز”.
في اجتماع في مجلس الشعب المصري ضم أعضاء ثلاث لجان هي لجننة الشؤون الخارجية ولجنة الأمن القومي ولجنة الشؤون العربية سأل سراج الدين وزير الدفاع المصري، حسين طنطاوي، عن حقيقة ما حصل. “تأثر الرجل وقال لي: (أنا آسف، لكن هذا السؤال يوجه إلى وزير الخارجية)”. رفع زعيم المعارض المصري طلب إحاطة إلى وزير الخارجية، عمرو موسى. “جاءني الرد في خطاب رسمي يقول: (بالنسبة لهؤلاء المجرمين فإن الحكومة الإسرائيلية تحقق في هويتهم.. أما موضوع التعويضات فهو موضوع محادثات بين الحكومتين)”.
في المبنى الجديد المطل على نهر النيل كان لقائي بالدكتور مصطفى الفقي مساعد وزير الخارجية المصري للشؤون العربية مندوب مصر الدائم لدى جامعة الدول العربية. كانت قهوتنا سريعة وكان حديثنا طويلاً. “نعم، القضية كما تفضلت ليست قضية دبلوماسية خالصة، ولكنها مسألة وطنية بالدرجة الأولى، ولا نستطيع تناسيها لأن الرأي العام لا ينساها. وبالتالي تحركت وزارة الخارجية المصرية من البداية على مستويين:أولاً على المستوى الوطني تشكلت لجنة من وزارة الخارجية ووزارة العدل ووزارة الدفاع لفتح الملف والبحث في خرق إسرائيل لاتفاقيات جنيف المعروفة. هذه الاتفاقيات تحفظ لنا حقوقًَا دولية لا يمكن إنكارها، وإذا ثبت ما تردد  في هذا الموضوع بشكل قاطع فسوف تتخذ مصر من الإجراءات القانونية الدولية ما يجعل تطبيق هذه الاتفاقيات معطيًا للأمور صور أخرى وللوضع القانوني شكلاً مختلفًا. وثانيًا على المستوى الإسرائيلي أدت جهودنا إلى قيام رئيس الوزراء الإسرائيلي، شمعون بيريس، بتشكيل لجنة في نهاية عام 1995 لبحث هذا الموضوع. هذه اللجنة ظلت تبحث – حسب معلوماتنا- من عام 1995 إلى عام 1998 وانتهت إلى تقرير يبدو أنه تقرير يثبت عدم وجود أدلة وهذا متوقع طبعًا من الجانب الآخر، ولكننا لم  نبلغ بهذا التقرير حتى الآن”.
لم أكن أدري تمامًا عندما غادرت مكتبه إن كان الدبلوماسي المصري اللامع، الدكتور مصطفى الفقي، لا يعلم حقًا بأمر هذا التقرير، أو أنه أراد أن يترك خط رجعة للخطاب الدبلوماسي بين مصر وإسرائيل بشأن هذه القضية التي يتفق هو نفسه معي على ضرورة التعامل معها من وجهة نظر قانونية أكثر منها دبلوماسية. ولا أنا أدري إن كانت الحكومة الإسرائيلية تتعمد تعرية موقف الحكومة المصرية أمام الشعب المصري لوجه الله. لكن الإسرائيليين، وهم يفعلون ذلك، يستحقون منا الشكر في قضية أشرف من أي حكومة تحترم نفسها، حتى إذا كان ما يفعلونه لوجه الشيطان. النتيجة على أية حال واحدة؛ فرغم أن نائب وزير الدفاع الإسرائيلي، إفرايم اسنيه، ينكر في حديثه إلينا معرفته بتفاصيل التقرير الذي يقر بوجوده فإن الصحفي الإسرائيلي المطلع، عمير أورين، يؤكد هذه النتيجة مع فارق واحد مأساوي.
“توصل الجنرال المتقاعد، أهارون دورون، الذي عينه رئيس الوزراء آنذاك، شمعون بيريس، لكتابة التقرير إلى نتائج مشابهة لما نشر، وهي أن ثمة أسرى مصريين أسيئت معاملتهم، وأن أفعالاً مشابهة ربما قام بها أيضًا المصريون ضد الإسرائيليين رغم عدم وجود دليل على ذلك. رفع هذا التقرير برمته إلى الحكومة المصرية، وهي حرة في الكشف عنه أو نشره إن شاءت”.
يلتمس رئيس تحرير جريدة “الأخبار” القاهرية، جلال دويدار، العذر بأن “ظروف الاحتلال والتطورات الدولية وانشغال مصر في استعادة أرضها وعوامل أخرى ساهمت- كما أجاب عمرو موسى- في الوصول إلى ذلك، لكن ملرف القضية مفتوح ولم تغلقه مصر وسيحين وقت إثارته مثلما سيحين وقت إثارة ملف ثروات سيناء التي نهبتها إسرائيل”. وبالتالي، كما يؤكد الدكتور مصطفى الفقي، “لا علاقة لهذا الملف باحتمالات التسوية ومسيرة السلام. هناك ملفات أخرى كثيرة ستفتح؛ استنزفت بترول سيناء وقامت بحفريات أثرية فيها، وقس على هذا في كل الأراضي العربية المحتلة”.
في رده على الإيعازات يأمل نائب وزير الخارجية الإسرائيلي، نواف مصالحة، أن تتخلى مصر عن هذا الاتجاه، “لكن إذا أصرت الحكومة المصرية فأنصحها بألا تعتمد على الباحثين؛ فالباحثون لا يمكن أن يروا الأسرار الآن. هذه الأسرار مخبأة من الجانبين. إذا أصرت الحكومة المصرية فإنها تستطيع بحث ذلك مع المسؤولين الإسرائيليين، لا من خلال الباحثين”.
لم أفهم تمامًا ما قصده نائب وزير الخارجية الإسرائيلي عندما نصح الحكومة المصرية بالابتعاد عن الباحثين بشكل عام إذا كان من بين هؤلاء من يعتمد على الحقيقة المجردة في إثبات وقوع شيء ما أو نفيه. هو في سياق ذلك يدعو الحكومة المصرية إلى الاقتصار على القنوات الدبلوماسية ولجان التحقيق التي تعينها الحكومتان. لكن من بين هؤلاء الباحثين يوارم بنور، المحقق الصحفي في التلفزيون الإسرائيلي المستقل، الذي يقدم لنا صورة تشبيهية طريفة. “إننا هنا نرمز اختصارًا للجان التحقيق التي تشكلها الحكومات الإسرائيلية المختلفة بالحرفين (غ.ط.)، وهو تعبير غير مهذب يعني (غطى طيز)، أي أنه غطى على تهمة. تشكيل هذه اللجان معناه باختصار دفن القضية، وهو أمر ينطبق أولاً على لجان التحقيق في الشؤون الإسرائيلية الداخلية، فما بالك بلجان التحقيق في شأن من شؤون العلاقات الإسرائيلية- العربية. إنني أؤيد تشكيل لجنة تحقيق مستقلة رغم أن لدى الجهات الأمنية الإسرائيلية قلقًا من احتمال أن تؤدي نتائج التحقيق إلى تعريض حياة الأسرى الإسرائيليين في المستقبل للخطر. إننا نعيش بين جيران لهم تراثهم وثقافتهم وقيمهم التي ينبغي علينا أن نحترمها؛  فإذا قتلنا ابن عرب في ظروف كهذه يكون علينا أن نذهب إلى عائلته بكل شجاعة وبكل شرف وبكل تقدير للمشاعر الإنسانية العربية واضعين في اعتبارنا أهمية قبول تسوية ما تؤدي إلى التراضي، وإن لم نفعل ذلك فنحن ساقطون”.
من ناحيته ينظر الأديب الصحفي المصري، يوسف القعيد، إلى أبعد من ذلك. “أنا أرى أن يتم تحريك الأمر على  مستوى المحاكم الدولية، وأن تقوم لجنة شعبية مصرية تتبناها نقابة المحامين أو منظمة حقوق الإنسان في مصر أو أية جهة شعبية أخرى كي تصل بجهودها إلى المدى الأخير. وأنا واثق من أن هناك الكثير من عائلات الأسرى والمفقودين المصريين ساكتة بسبب اليأس والإحباط، كما أنني واثق من أن انقسام المجتمع الإسرائيلي وشرذمته- اللذين يراد لنا أن نفهم أنهما من مظاهر الديمقراطية- ستضعان أصواتًا إسرائيلية تقف بجانبنا وربما تقدم لنا ما يخدم هذه القضية”.
“لا بد أولاً من توافر إرادة سياسة تؤمن بمصداقية وأهمية المطالبة بهذه الحقوق، وبأنها غير قابلة للمساومة تحت أي بند من بنود الحسابات السياسية”، هكذا يشترط المدافع عن حقوق الإنسان المصري، حافظ أبو سعده، “لا بد ثانيًا من أن يتحرك الرأي العام كي يضغط على حكومته من أجل المطالبة بمحاكمة المسؤولين عن هذه المذابح، بما يؤيد إلى أن يقدموا اعتذارًا صريحًا للشعب المصري والشعوب العربية بشكل عام وتقديم التعويضات المناسبة لأسر الضحايا. هذه حقوق لا ينبغي التنازل عنها”.
بشيء من هذه الروح، مؤمنًا بأن له حقًا أخذ منه عنوة بالقوة، قرر الأسير المصري المنسي كغيره، أمين عبد الرحمن، أن يستعيده عنوة.. بالقانون. يقتات اليوم وأسرته الممتدة على فتات سيارة أجرة هو نفسه أجير عليها. أفلت بها ذات يوم من زحام القاهرة إلى زحام المحاكم، فأقام عام 1995 دعوى قضائية أمام محكمة جنوب القاهرة بحق إسحاق رابين وأرييل شارون والقاتل المعترف إرييه بيرو. ولكن دعوى أمين عبد الرحمن رفضت على الفور، كما رفض غيرها، بحجة عدم الاختصاص. قضيته الآن بين يدي الله، ومعذبه بين يدي الشيطان، وهذه الدعوى بين يدي الدولة. للدولة وحدها، كما قيل لنا، حق رفع مثل هذه الدعوى، تمثلها في ذلك هيئة قضايا الدولة التي هي بتعبير أكثر بساطة “محامي الدولة”.
“بحكم مسؤوليتي كرئيس لهيئة قضايا الدولة آنذاك بدأت أستعد لاحتمال أن تطلب مني الدولة رفع مثل هذه الدعوى. قمت بتجميع كل ما يتعلق بالقضية بدءًا باتفاقية جنيف لعام 1969 وتعديلاتها وكل ما نشر عن قضية الأسرى المصريين من شهادات وتحقيقات وأبحاث، وقمت بتكليف فريق بجمع كل الأحكام الدولية الصادرة بشأن قضايا مماثلة خاصة بعد الحرب العالمية الثانية لإدراجها في متن الدعوى إذا لزم الأمر”. هكذا تطوع  المستشار جمال اللبان، رئيس هيئة قضايا الدولة في مصر من عام 1993 إلى عام 1998، من واقع حسه الوطني وحسه المهني دون تكليف من أحد. لكنه انتظر، ثم انتظر، ثم انتظر على أمل أن يتصل به أحد من الأدوار العلوية. مر أكثر من خمس سنوات نسي هو نفسه أثناءها أنه كان في انتظار مكالمة هاتفية.
أما إذا افترضنا أن هذه المكالمة الهاتفية لن تحدث أبدًا فإن لدى نائب وزير الدفاع الإسرائيلي، إفرايم اسنيه، فكرة جيدة. “انظر! إذا أراد مواطن مصري أو أسرة مصرية رفع قضية على الحكومة الإسرائيلية أو على مسؤول أو ضابط إسرائيلي فليفعلوا ذلك. إنهم ليسوا مضطرين إلى الالتزام بتعليمات حكومتهم، وإذا كانوا يرون أن لهم حقًا فليسعوا إليه بأنفسهم. هذا قرارهم هم”.
لكن الوزير الإسرائيلي، إذ يقترح تلك الفكرة، يعلم أنه يوعز في ثناياها بمزيد من التطبيع المدني غير المباشر؛ إذ سيكون على مواطن مصري يأخذ بهذا الاقتراح أن يقدم أوراقه إلى محكمة إسرائيلية. يؤيد هذا الاقتراح من وجهة النظر القانونية النائب السابق لرئيس محكمة الاستئناف الإسرائيلية، المستشار زكي كمال، إذ أن “قضية إساءة معاملة الأسرى العرب لم توضع حتى الآن قيد البحث لدى القضاء الإسرائيلي. وفي رأيي أنها تقع ضمن خانة جرائم الحرب، وربما يجد القضاء الإسرائيلي منفذًا لتقديم هؤلاء المجرمين إلى العدالة حتى بعد مرور فترة زمنية طويلة على وقوع الجرائم”.
هذه “الفترة الزمنية الطويلة” يبدو أنها المحك الفاصل الذي يتلاعب به الإسرائيليون في تنول هذه القضية التي وقعت أحداثها قبل أكثر من ثلاثة وثلاثين عامًا (حرب 67) وقبل أكثر من أربعة وأربعين عامًا (حرب 56) فيما يقولون لنا إن قانونهم يقول لهم إنه لا يجوز لحساب بعد مرور عشرين عامًا على وقوع الأحداث، وهو ما يعرف لديهم بقانون التقادم. غير أن المستشار جمال اللبان يقول إن هذا هو القانون الجنائي الإسرائيلي الداخلي الذي يحكم واقعهم هم، “أما نحن فبصدد اتفاقية دولية تنص على عدم وجود تقادم في ما يخص جرائم الحرب بين الدول الموقعة على هذه الاتفاقية، ومصر وإسرائيل كلتاهما من بين هذه الدول”.
ويذكر الدكتور مصطفى الفقي الإسرائيليين بأن جرائم النازية ضد اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية لم تسقط بالتقادم. “كيف إذًا تسقط جرائمهم في الحرب ضدنا بالتقادم. “كيف إذًا تسقط جرائمهم في الحرب ضدنا بالتقادم؟! هم أنفسهم لم ينسوا من قاموا ضدهم بأعمال عدائية أثناء الحرب العالمية الثانية، وحتى الآن ما زالوا يتعقبونهم بالمطاردة القانونية والسياسية، فلماذا يحل لهم ما يحرم علينا؟!”.
هنا لا يتمالك نائب وزير الدفاع الإسرائيلي، إفرايم اسنيه نفسه حين وضعنا أمامه هذه المقارنة الوجيهة فانفجر فينا مهددًا: “أعتقد، بل أنصحك بالتوقف عن هذه المقارنة الغبية الشنيعة”، وحين أعدنا صياغة السؤال احمرت أوداجه وصرخ في نبرة حاسمة بالإنكليزية:
“OK.. Stop it now, NOW?!!”
“وشوف البجاحة”، يرد الدكتور أحمد الفنجري الذي شهد جانبًا من فظائع إسرائيل أثناء العدوان الثلاثي عام 56، “البجاحة أنه لا يزال حتى اليوم يبحث عن إيجارات دكاكين اليهود في الدول التي طردوا منها قبل ستين  عامًا ولا يهمه هؤلاء الذين ذبحهم وعذبهم قبل ذبحهم. هذه هي البجاحة بعينها”.
وحتى في حود القانون الإسرائيلي يلفت المستشار زكي كمال أنظارنا إلى نقطة هامة؛ فرغم أن هذا القانون يبرئ الجندي من المسؤولية القانونية الناجمة عن قيامة بتنفيذ الأوامر العسكرية الواردة إليه من رؤسائه فإن “هناك بندًا في القانون العسكري الإسرائيلي يسمى (الخط الأحمر) مؤداه أن للجندي الحق في عصيان الأمر العسكري إذا استشعر أن هذا الأمر يمكن أن يمثل جريمة حرب. وفي التاريخ العسكري الإسرائيلي أمثلة على رفض بعض الجنود تنفيذ الأوامر العسكرية التي كانوا يتشككون فيها ولم يجرؤ أحد على  تقديمهم فيما بعد للمحاكمة”.
وينصحنا المستشار جمال اللبان، رغم ذلك بتجاهل القانون الإسرائيلي جملة وتفصيلاً؛ فالمسؤولية الجنائية في رأيه “تقع على عاتق الحكومة الإسرائيلية لا على عاتق الجندي أو الضابط الذي خطط للجرم أو نفذه”. وهو في ذلك يعتمد على نص المادة رقم 12 من اتقاقية جنيف لعام 1949 التي تقول: “يقع أسرى الحرب تحت سلطة الدولة المعادية لا تحتح سلطة الأفراد أو الكتائب العسكرية التي أسرتهم”. ومعنى هذا من وجهة نظره أن “الدعوى سترفع ضد الحكومة الإسرائيلية سواء كان الجندي أو الضابط الذي ارتكب الجرم حيًا أو ميتًا”.
حتى الآن لم تقرر الحكومة المصرية مواجهة الحكومة الإسرائيلية، لا في ساحة دولية ولا في غيرها. كل ما حدث في أعقاب بث هذا التحقيق عتلى قناة الجزيرة في الذكرى الثالثة والثلاثين لهزيمة يونيو 67 مقال في الصفحة الأخيرة لجريدة “الأخبار” القاهرية يشتم فيه أحد كتاب السلطة في مصر جنود إسرائيل وباحثيها الذين أمدونا بشهادات وأدلة ومعلومات موثفة تدين الموقف الإسرائيلي بقدر ما تؤيد الموقف المصري، وهو ما يساهم في إثبات قناعتي بأن مصر كانت دائمًا- ولا تزال- شيئًا وأن حكامهاه كانوا دائمًا- ولا يزالون- شيئًا آخر، بعكس ما يريد لنا كتّاب السلطة أن نفهمه. بل إن رد الفعل الشعبي الجارف، سواء في مصر أو في سائر الدول العربية، أخجلني كثيرًا وبث في نفسي اعتزازًا غامرًا بعروبة من المؤسف أن القائمين عليها لا يرقون إلى  مستواها. وحين نزلت قناة الجزيرة على رغبات المشاهدين وأعادت بث هذا التحقيق قامت الدنيا ولم تقعد في صحف مصر الحكومية وفي تليفزيوناتها التي لا تعد ولا تحصى فيما كان واضحًا أن أحدهم ضغط على زر واحد فانقلبت آلة الإعلام المصري على “الجزيرة” وسكان “الجزيرة” وكل من له علاقة بـ “الجزيرة” ووسط هذا الغبالر الكثيف الذي أضاف إلى شعبية قناة الجزيرة تضيع القضية نفسها ويضيع دم آبائنا لأن واحدًا من أبنائهم أراد أن يضع زهرة على قبورهم فأوسع له الأعداء أبواب القبور وأغلقها من كنا نظن أنهم أحباب. فليرحم الله الذين ماتوا كي نعيش والذين أذلوا كي تكون لنا كرامة.

يسري فوده

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى