المقالات

طرابلس في غربة عن نفسها: كم أحنّ إلى أصالتها\د. أيمن عمر

بمجرد أن تذكر مدينة العلم والعلماء في أقصى الأرض وأدناها، يأتيك الجواب دون تلعثم أو تردد هي طرابلس. طرابلس الفيحاء التي كان يفوح عطر زهر الليمون في أزقتها وأحيائها، وينتشر أريجه في أرجاء الوطن كافة، فتنتعش النفوس الزكية ضمن سياق مجتمعي يضفي على المدينة طابع العائلة الواحدة ذات القيم المشتركة والأصالة النبيلة، عندها تتم مجابهة الأزمات كافة كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر أبناء المدينة بالتضامن والتكافل، فتخفّ حدّة الأزمات ويصبح الخروج منها سهلاً. ولكأن زلزالاً مدمراً أطاح طرابلس القديمة، طرابلس التاريخ والمجد والعزة والشموخ، طرابلس القيم والأخلاق والتكاتف والعلم والرجولة والشهامة والعروبة، طرابلس النضال والحركات الثورية والقضية الفلسطينية. انقلبت طرابلس من المدن الثلاث إلى “طرا إبليس” المدينة المشرّعة الأبواب أمام كل ما هو إبليسي وشيطاني. ظاهرة القتل والتصفية الجسدية عند أي خلاف تافه حقير بين أبناء الحيّ الواحد أصبحت لا تطاق. الكل في طرابلس تلظّى بنار الجوع واكتوى بشظايا الفقر، وثُلّة قليلة من المترسملين يتفرجون عليهم نظر المغشيّ عليه من الموت، بل إن بعض الناس يقتات على أشلاء فقراء طرابلس المحطمة ويكوّنون ثروات طائلة ليدخلوا إلى قائمة “الأغنياء الجدد”.
طرابلس لم تعد طرابلس مدينة العلم والعلماء، مدينة حسين الجسر ونديم الجسر ومحمد الميقاتي وعبدالكريم عويضة وعصام الرافعي وعبدالفتاح كبارة ومحمد الأحدب وعبد المجيد المغربي ومحمد رشيد رضا وغيرهم، لم تعد تلك المدينة التي تمتلئ مساجدها بحلقات العلم والتفقّه وتكاياها بحلقات الذكر والتعبّد، بل أصبحت مساجدها مقصداً للسياحة وموئلاً للتصوير ومركزاً للمتاحف، والبكاء على أطلال تاريخ تليد نتغنّى به نحن فقط، ولا يعني بأي شيء لا من قريب ولا من بعيد الأجيال الحاضرة والقادمة. طرابلس لم تعد طرابلس الفيحاء التي تفوح منها رائحة عطر الورد والياسمين وزهر الليمون فتضفي على المدينة رونقاً قلّ نظيره في دول العالم أجمع، بل أصبحت طرابلس مدينة النفايات والقمامة، تنبعث منها رائحة السرطان والموت البطيء،وأخطر من هذا سموم النفوس التي تسرق وتقتل وتستغل حاجات الناس على المحطات والأفران ومحلات السمانة والمأكولات.
طرابلس لم تعد طرابلس مدينة الجهاد ومكافحة الظلم والاستعمار، مدينة فوزي القاوقجي وعبداللطيف البيسار وعبدالحميد كرامي وراشد المقدم وغيرهم، لم تعد تلك المدينة التي تنتصر لقضايا الأمة وعلى رأسها فلسطين، بل اختلطت المفاهيم وتاهت المفردات وضاعت بوصلة الصراع الحقيقي حتى أمسينا نتقبل فكرة الكيان الغاصب الإسرائيلي وندعو له بالانتصار على من عادانا من عرب وفرس وعجم. والمضحك المبكي أن هذا الكيان الغاصب هو صاحب نظريات اقتتالنا الداخلي وأنه ليس هو عدونا الأول وغيرها. طرابلس لم تعد هي ضابط الإيقاع للسياسة الوطنية وصاحبة القرار والمرجعية على المستوى الوطني، كانت إذا غضبت ثار لبنان، وإذا حزنت لبس الوطن بأكمله السواد وأعلن الحداد العام، إذا جاع الوطن تسدّ رمقه من قوت أولادها، وإذا قالت “لا” وقف الجميع على قدم واحدة. فأصبحت طرابلس ساحة الصراعات وملعباً لتصفية الحسابات وصناديق للموت، تتقاذفها القوى السياسية بأقدام مصالحها. وأبناؤها يتناحرون في ما بينهم على مذبح قوى سياسية بعضها غريب عن المدينة، بل إن بعضاً منها مشارك في سفك دماء أبنائها واغتيال أبرز رموزها وهي نفسها تنظر إلينا أننا خارج نطاق التاريخ والحضارة والحاضر.
فهل هي “نظرية الزحمة” التي ذكرها لي أحد أصدقائي، بحيث إذا ازداد النمو السكاني تتفلت الأخلاق والقيم وتتفجر المشاكل والأزمات؟ أم هي نظرية المؤامرة وما أسهل أن نبني فشلنا عليها؟ أو غياب الحاضنة والمشروع الموحد لابناء المدينة والذي يتطلب القادة القدوة؟ أم هو خلل ذاتي مرده عوامل موضوعية عدة تتطلب منا البحث فيها ومقاربتها؟
مهما تعددت الأسباب، ما أحوجنا إلى أن نسترجع طرابلس من غربتها ونعيدها من سباتها العميق عبر إحياء ثقافة الأخلاق والقيم والالتزام والوطنية التي طالما اشتهرت بها طرابلس على مرّ التاريخ. وهذا يتطلب أن يقوم كلٌّ منا بدوره في الموقع الذي هو فيه. كم أحنّ إلى أن تعود طرابلس كما كانت، وهذا يتطلب منا أن نعود نحن إلى أصالتنا وقيمنا، عندها يتولى شؤوننا أخيار القوم لأنه مثلما نكون يُولّى علينا، وإلا عندها يسود علينا الخفافيش والحرافيش ومن لفّ لفهم. https://tinyurl.com/yjz2jr8d

المصدر جريدة النهار*

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى