إجتماعيات

نقلا عن صفحة الاستاذ طوني الخوري

في الزمن الرديء استذكر من وصفته هذه السطور…..

هامة هوت…

يتجول في حواري طرابلس حاملاً حقيبته ساعياً إلى بيوت المرضى، يطببهم ويبذل وسعه ليخفف آلامهم. هو الذي فتح أبواب عيادته مجاناً حتى أصبح يُعرف بـ “طبيب الفقراء”، الدكتور عبد المجيد الطيب الرافعي.

رجلٌ لَبس ثياب عمال الإنقاذ خلال طوفان نهر أبي علي عام 1955 وحمل الغرقى على كتفيه ومشى.

رجلٌ دخل بيوت التنك وجالس المرضى المعدمين حتى انبلاج الفجر ومفارقة الحمى لأجسادهم.

في عام 1976 حوصرت طرابلس من جهاتها الأربع وبدأت معاناة الشح في الغذاء والدواء. ولكن المدينة لم تركع بفضل ابنها الدكتور عبدالمجيد الذي سعى لتأمين كل ما يحتاجه ناسها عبر إيفاد مندوب عنه إلى اليونان لشراء وشحن كميات كبيرة من الأرز والسمنة والزيوت والسكر ومختلف أنواع المواد الغذائية الضرورية.

ولمجابهة مؤامرة التجويع أعلن الدكتور عبدالمجيد عن تأمين كميات ضخمة من الطحين وُزِّعت على أفران المدينة على أن يُعطى كل مواطن كمية الخبز التي يريدها مجاناً وبدون أي مقابل. وصمدت المدينة!

كان الدكتور الرافعي من القلائل الذين يدخلون معترك الحياة المهنية والسياسية بهدف العطاء وخدمة المجتمع.

ألم يكن بمقدوره وهو البعثي الموثوق من النظام العراقي ان يصبح ذا جاه ومال؟
أما كان باستطاعته ان يحتل أرفع المناصب السياسية لو انه ساوم على مبادئه وقِيَمِه؟
نعم كان ليستطيع ذلك واكثر اذ كانت السبل مفتوحة أمامه، خاصة متى عرفنا الإمكانيات الهائلة للحكم البعثي في العراق حينها.

لم يجير يوما تلك الامكانيات لنفسه بل أراد ان تعود فائدتها الى أبناء مدينته ووطنه، ففتح أبواب الجامعات والمعاهد العراقية الراقية أمامهم، كما فتح أبواب العمل لمن أراد، بالإضافة لنجاحه بإقناع الحكومة العراقية أن تعتمد مرفأ طرابلس حصرياً لاستيراد كل السلع والبضائع القادمة للعراق، على ان تُنقل براً إلى مدن العراق بكامله، حيث شهد مرفأ طرابلس والنقل البري فيها عصراً ذهبياً لم تعرفه في تاريخها.

هو المسلم السني الذي قال يوما للأب مارون عطالله خلال زيارة الأخير لبغداد:

“أنا ذاهب لأُصليّ على نية العودة إلى وطني الحبيب”.

فسأله ما المقام الأوَّل الذي تبدأ به؟

فأجاب: “وادي قاديشا”.

وعقب الأب عطالله حول ذلك:

“كان مشرقياً تراثيّاً أصيلاً. وفهمتُ أنَّه كان مرتبطا بمجموعة مؤمنة بالتراث المشرقي الذي هو الحضارة العالميَّة للبشريَّة، وإنَّها حضارة الشرق والغرب، ذلك قبل قيام اليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلام. وكيف أنَّ هذا التراث كفيل بتوحيدنا”.

في إنتخابات 1960 عرض المرحوم ناظم غندور عبر وسيط ان يدعم الدكتور الرافعي بوجه الرئيس رشيد كرامي بان يقدم له مبلغ 300 ألف ليرة هدية، و كان المبلغ يمثل ثروة طائلة علما أن وضع الحكيم المالي كان صعبا لكنه رفض المبلغ قائلا للوسيط: “طبعاً.. أبو عبدالله مشكور وفعلاً نحن بحاجة، ولكن مقابل ماذا سيقدم «الهدية» وكيف سنسدد له وفي أي مجال؟.. نعتذر.. ولا يمكننا تسديد هكذا دين”.

ويروي المحامي رشيد درباس انه في مجلس عزاء النساء بالدكتور عبد المجيد نظر في عيني زوجته السيدة ليلى وبقية العيون، فتذكر ما قاله «جورج بومبيدو» عند رحيل الجنرال ديغول «مات ديغول.. فرنسا أرملة» لأن الحزن الراقي الذي سكن وجوههن كان ينمُّ عن هول الرحيل.

ويروى ان مدير الأمن العام في عهد الرئيس فرنجيه، العميد انطوان دحداح تلقى اتصالا من العميد حكمت الشهابي في الأيام القليلة التي سبقت انتخابات 1972 ورغب إليه في الاجتماع.

في لقائهما في دمشق، باغته بالسؤال الآتي: “ماذا تعتمدون ان تفعلوا في الانتخابات؟”

رد: “لا شيء. انتخابات حرة ونزيهة. لن نتدخل فيها من أجل سمعة العهد لأنها الأولى التي يُجريها”.

قال: “أريد فيها أمرين”.

رد باستغراب: “تريد أمرين بينما نحن لا نريد منها لأنفسنا شيئاً، ولا الرئيس طلب! الأحرى أن لا يطلب أحد سواه”.

ثم سأله: “ما هما؟”

أجاب:” طلبان أصرُّ عليهما هما منع انتخاب عبدالمجيد الرافعي في طرابلس ورياض طه في الهرمل”.

رد انطوان دحداح: “لن نوافق عليهما لأننا لن نتدخل في الانتخابات”.

قال رئيس الاستخبارات العسكرية الشامية: “لكننا لا نقبل بجواب كهذا، وفي وسعنا العرقلة”.

رد: “كيف تعرقلون إذا كان قرار الحكومة اللبنانية عدم التدخل في الانتخابات؟ في أي حال سينجح عبدالمجيد الرافعي لأن لديه شعبية كبيرة، وكذلك حزب البعث العراقي في ظل انحسار شعبية رشيد كرامي بعد انهيار الشهابية، أضف أن المسيحيين في طرابلس سيقترعون له. هل تريدون محاربتهم؟
أما رياض طه فسيخسر من تلقائه في الهرمل من دون تدخلنا بسبب تركيبة اللوائح هناك. هذا ما سيحصل في النهاية”.

كرر حكمت الشهابي تمسكه بطلبيه، فقال محدثه: “ليس لكم إلاّ ان تقبلوا بنتائج انتخابات ستكون حرة ونزيهة”.

إذ ذاك لوّح بالعبارة الآتية:” سأخبر سيادة الرئيس بالأمر”.

فور عودته إلى بيروت أطلع مدير الأمن العام رئيس الجمهورية على وقائع الحوار.

أياماً بعد صدور النتائج النهائية للانتخابات، خابر أنطوان دحداح حكمت الشهابي بالقول: “هل صدَّقت؟ كل ملفاتنا وتقديراتنا كانت تقول لنا، ومن دون أن نتدخل، إن عبدالمجيد الرافعي سيربح ورياض طه سيخسر”.

وقد حاز الدكتور عبد المجيد على 17517 صوتا متفوقا على الرئيس كرامي بحوالي 600 صوت.

ما هذا إلا غيض من فيض من مآثر المناضل الراحل الدكتور عبد المجيد الطيب الرافعي الذي مثل جمال طرابلس الفيحاء و لم يعرف الطائفية يوما، مكرسا عمره للبسطاء المسحوقين. نفتقده اليوم في زمن ندر فيه الرجال واستوطنت أرضنا خفافيش الظلام.

منقول

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى