الأخبار العربية والدولية

“منتدى التكامل الإقليمي” يدعو إلى قمة ثلاثية بين الرؤساء السيسي ورئيسي وأردوغان

نسارع إلى القول:
قد يبدو إقتراحنا لعقد قمة ثلاثية بين رؤساء أقطاب المثلث الذهبي التاريخي في منطقتنا، مصر وتركيا وإيران، مجرد خيال مجنّح، في ظل ليس فقط كرنفال الدم والجنون الذي تسبّبت به القوى اليمينية- التلمودية المتطرفة في إسرائيل والتي أعادت عقارب الساعة في فلسطين والمنطقة إلى العام 1948، بل أيضاً في ضوء الخلافات العميقة الإديولوجية والجيوسياسية بين هذه الأطراف الثلاثة المؤسّسة لحضارتنا المشرقية المتوسطية.
لكن أي تدقيق في جوهر التطورات الدولية والإقليمية الراهنة، توفّر لنا صورة مغايرة تماماً عن هذا الخيال المجنّح: صورة واقعية للغاية وموضوعية للغاية، وفي الوقت نفسه حضارية للغاية (بمعنى العمق الاستراتيجي التاريخي):
أولاً، حرب غزة، ومهما كانت النتائج التي ستسفر عن هذا الحدث التاريخي الجلل، أسقطت بضربة واحدة وسريعة النظام الإقليمي الشرق أوسطي الذي أقامته الولايات المتحدة وإسرائيل بعد حرب 1967، وهزّت بعنف أركان النظام الإقليمي الجديد الذي كانت واشنطن تُعد له منذ العام 1991، مرة بالتفاوض ومرات بالحروب، والذي تجسّد أخيراً في مشروع الممر الاقتصادي من الهند إلى إسرائيل مروراً ببعض دول الخليج ايذي كان يفترض أن يتوّج عملية التطبيع بين المملكة العربية السعودية والدولة العبرية.
ثانياً، إيران مهما أنجزت وفعلت، لن تستطيع بمفردها إقامة نظام إقليمي جديد (ولا تركيا التي حاولت ذلك هي الأخرى منذ 2011، وقبلها مصر الناصرية)، حتى ولو كانت مدعومة من روسيا والصين. وهذه المسألة، أي عجز أي طرف في المثلث الذهبي من التفّرد في إقامة نظام إقليمي، ليست مسألة راهنة تتعلّق بعائق القوة الأمبرطورية الأميركية، بل هي حقيقة تضرب جذورها عميقاً في التاريخ عبر ثلاثة مؤشرات:
1- أن كل الامبرطوريات في تاريخ المنطقة، من الحثيين والفرس والفراعنة إلى العرب والعثمانيين، لم تكن لتستطيع إقامة نظامها الإقليمي إلا بالتمازج (وليس بالضرورة التوافق) بين هذه الأطراف الإقليمية الكبرى الثلاث.
2- ، أن النظام الإقليمي الذي أقامته بريطانيا وفرنسا، ثم الولايات المتحدة، في العصور الحديثة في ما يسمى الشرق الأوسط، قام على أساس استخدام لعبة الكراسي الموسيقية بين مصر وتركيا وإيران. فمثلاً، حين “تمردّت” مصر الناصرية على النظام الأميركي الأميركي- الإسرائيلي، حرّكت واشنطن ضدها أنقرة وطهران (ومعهما بالطبع تل أبيب الوافدة حديثاً إلى النظام). وحين “تمرّدت” إيران الخميني على النظام، حرّضت واشنطن ضدها تركيا ومصر.. وهكذا.
3- تركيا، وقبلها مصر الناصرية، حاولت إقامة نظام إقليمي جديد بمفردها، لكنها عجزت عن ذلك. والأرجح الآن أن تعجز إيران عن هذا إذا ما بقيت دعوتها إلى النظام الجديد بمعزل عن طرفي المثلث الذهبي الآخرين.
ثالثاً، قد يقال هنا أن الخلافات الإيديولوجية والجيوسياسية بين مصر وتركيا وإيران، وبغض النظر عن لعبة الكراسي الموسيقية الأميركية، عميقة وشاسعة بحيث تعيق حتى أي تفكير بالحوار ناهيك بالتعاون. وهذا صحيح.
لكن، ثمة في المقابل عوامل جديدة تدفع ليس إلى التوافق على الإديولوجيا والمصالح المنفردة للدولة- الأمة في كل منها، بل إلى التفاهم على صيغة وستفالية جديدة بينها توقف التدخلات الخارجية لكل منها في شؤونها الداخلية، وتحظر التوغلات الإيديولوجية، خاصة المذهبية منها، في التراكيب الدينية الراهنة.
من هذه العوامل أن الولايات المتحدة، الغارقة في أزماتها الداخلية الاجتماعية- الثقافية والاقتصادية ومعاركها الخارجية المُستنزفة مع روسيا والصين، لن تستطيع إقامة أي نظام إقليمي جديد في المنطقة. وأصلاً هي لم تكن تريد إقامة مثل هذا النظام لتحقيق الاستقرار والسلام في هذا الإقليم، بل في الواقع الإنسحاب من الشرق الأوسط والتفرّغ لمنطقة شرق آسيا / الباسيفيك التي تسيطر الآن على نحو 60 في المئة من حجم التجارة العالمية.
الولايات المتحدة جرّبت منذ العام 2001 تغيير المنطقة بحروبها في أفغانستان والعراق، والتي كان يفترض أن تتمدد سريعاً إلى سورية وإيران. وحين فشلت، لجأت منذ العام 2011 إلى تفجير المنطقة من داخلها ونشر الفوضى التامة فيها. والآن، وبعد زلزال غزة، قد سيتعمّق على الأرجح هذا التوجّه الأميركي لنشر الفوضى، وسيطال حتماً (وهو بدأ يطال بالفعل) تركيا ومصر وبالطبع إيران.
هنا المصلحة الأولى لأركان المثلث الذهبي: أي وقف تمدد الفوضى إلى مواطنها، وهي فوضى ستتعمق أكثر بكثير مع الفراغ الهائل الذي سيتركه “الفراغ الإقليمي” الجديد بعد حرب غزة التي قد تتمدد إلى كل المنطقة.
ثم: ثمة مصلحة ثانية لا تقل أهمية: الحروب الداخلية على أنواعها التي استعرّت في الإقليم منذ العام 1991 ووصلت إلى ذروتها في العام 2011، أصابت كل دول المثلث بالإرهاق الشديد، وكلّفت المنطقة ككل أكثر بكثير من التريليون دولار اقتصادياً، وملايين اللاجئين ديموغرافيا، وتآكلاً هائلاً في بنية البيئة الطبيعية فيما كانت الأمم المتحدة تضع منطقتنا على رأس الأقاليم المهددة بكوارث تغيّر المناخ.
ثم أيضا: ثمة مصلحة “ضميرية”، إذا جاز التعبير، لدى قادة المثلث بانقاذ حضارتنا المشرقية العريقة المهددة بزوال حقيقي على يد كوارث لا تحصى بيئية واجتماعية واقتصادية وديموغرافية، كما حذّر مؤخراً مسؤول إيراني.


ربما بات واضحاً الأن أن ما تجابهه منطقتنا بعد زلزال غزة وما سيليها من تطورات متوقعة كبرى، يرقى بالفعل إلى مرتبة الخطر الوجودي الحقيقي على إقليمنا برمته وعلى حضارتنا برمتها.
وتبعاً لذلك، لا تبدو دعوتنا في “منتدى التكامل الإقليمي” إلى قمة ثلاثية عاجلة بين الرؤساء عبد الفتاح السيسي وإبراهيم رئيسي ورجب طيب أردوغان مجرد تفكير رغائبي أو حلم ليلة صيف، بل هي حاجة واقعية وملحّة وتاريخية. فالمسألة، كما ألمعنا، باتت بالفعل قضية وجود أو لا وجود لحضارتنا وإقليمنا.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى