المقالات

دويلة فلسطينية بلا حدود ولا ضفاف – بقلم: ماجد الشّيخ

مرة أخرى جديدة يكرر الرئيس الأميركي باراك أوباما ومن على منصة الأمم المتحدة هذه المرة، ما كان قد ردده من قبل في خطاب القاهرة في بداية عهده، من دون أن يترجم ما كان قد وعد به من وعود، ونادى به من مبادئ، اتضح مع الوقت أن تلك “الوعود” و”المبادئ” ومسارات الطرق التي رسمتها “خرائطه”، كما “خرائط” الذين سبقوه، مجرد حبر على ورق، حيث الطرق المسدودة والتسويات المستعصية. وهو إن كان قد “شرّف” إسرائيل –  بحسب نتانياهو – برفضه أو معارضته للدولة الفلسطينية، فهو في المقابل يكون قد “خان” المبادئ التي ينادي بها ولا يلتزمها، فأي وهم لدى البعض في أن يكون الحليف الإستراتيجي الأميركي لإسرائيل نزيها ولو للحظة، للدفع بمفاوضات ذات مرجعيات واضحة، في وقت يجري فيه غض النظر عن استيطان زاحف، يبتلع يوميا مزيدا من جغرافية الأرض الفلسطينية. بينما تتبدد في كل يوم جديد كل مآلات ممكنة لتسوية يجري التوافق في شأنها بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟.   

في سياق المواجهات التي بدأت تشهدها حلبة سباق رئاسة الولايات المتحدة، كتبت نيويورك تايمز يوم الإربعاء الماضي (21/9) أن الرئيس الأميركي بحاجة إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو لتمرير قرارات في الكونغرس، كما وفي سياق المنافسة على رئاسة الولايات المتحدة في الانتخابات القادمة. وأوردت الحادثة التالية: عندما سعت الإدارة الأميركية خلال الشهر الماضي ألى التأكد من أن الكونغرس لن يمنع تحويل 50 مليون دولار إلى السلطة الفلسطينية كمساعدة مالية، توجه إلى من وصف بأنه “اللوبي ذو التأثير الخاص” في إشارة إلى نتانياهو.

وكانت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية، في اليوم التالي، قد نقلت هذا النبأ استنادا إلى أنه كان يمكن رؤية تأثير المواجهات الإسرائيلية – الفلسطينية في نيويورك على السباق على رئاسة الولايات المتحدة، وأشارت إلى تصريحات المرشح الجمهوري وحاكم تكساس – المرشح الأول بحسب الاستطلاعات – ريك بيري، والتي وصف بها سياسة أوباما في الشرق الأوسط بأنها “خطيرة وساذجة ومضللة” وأنه لولا أوباما لما كنا “على شفا حفير من الهاوية” في إشارة إلى المسعى الفلسطيني في الأمم المتحدة.

في كل خطابات الرؤساء الأميركيين يوجد نسبة من التماهي مع الخطاب الإسرائيلي، وقد أمل نتانياهو على الدوام ومنذ خطاب أوباما الأول في القاهرة أن تلتزم الخطابات الرئاسية الأميركية “مبادئ السلام الإسرائيلية الستة” من قبيل: الحفاظ على إسرائيل باعتبارها دولة الشعب اليهودي، ودولة فلسطينية منزوعة السلاح لا تسيطر على غور الأردن، واللاجئون لا يمكن حل مشكلتهم داخل إسرائيل، والحفاظ على الكتل الاستيطانية، والحفاظ على القدس، وأخيرا انتهاء المطالب وإنهاء الصراع.

وكما في الأيديولوجيا الصهيونية، لا تختلف الأهداف عن المبادئ أو المطالب؛ الآن أو في المستقبل، هكذا تبدّت وتبدو أيديولوجيا التراث الديني والسياسي للحركة الصهيونية، كما لحلفائها المخلصين الإستراتيجيين من المسيحية الصهيونية، لهذا لا تختلف الخطابات التي تبدو لفظية، لكنها في الحقيقة والواقع خطابات “فوق واقعية”، قد تقارب في يوتوبيتها واقعا متصورا وواهما، لا تريد الحركة الصهيونية مغادرته، ولا الاختلاف بين مضامينها وجوهر ما تريد. من هنا التزام نتانياهو في خطاباته نهج “الحقائق” كأضاليل قدّت من أيديولوجيا اعتدنا سماعها والتعايش معها، ومؤخرا بات الخطاب الحكومي المتطرف لائتلاف اليمين الصهيوني الحاكم؛ لا يتخارج عن التزامه تلك المبادئ، فالدولة “منزوعة السلاح” الأوبامية؛ كما “الدولة المراقبة” الساركوزية، لا تختلف عن “دولة نتانياهو” التي ما فتئ ينادي بتحديدها بين الحين والآخر، فهي دولة “سلام اقتصادي” أو في أحسن الأحوال دولة “حكم ذاتي” تقايض جزءا من أرضها ببضع أراض في النقب، في مقابل عدم التنازل من جانب إسرائيل عن الكتل الاستيطانية الكبرى في القدس والضفة الغربية، ومن دون الانسحاب من منطقة الأغوار كمنطقة حدودية تتيح تواصلا حدوديا مع الأردن؛ وهذا ما لا تريده هذه الحكومة ولا أي حكومة إسرائيلية في المستقبل.

إن “تسوية عقارية” كهذه، كما هي في الذهن الإسرائيلي، وبدعم أميركي، هي ذاتها التي تجعل من “إسرائيل دولة يهودية لشعب يهودي معترف به دوليا”، في مقابل دويلة حكم ذاتي منزوعة السلاح والسيادة، لا يعترف العالم بها؛ إلاّ كونها حلا لتجمعات فلسطينية استبقيت خارج إطار الكيانات القائمة في المنطقة، فإما أن تبقى ككيان حكم ذاتي تحت السلطة الإسرائيلية، أو يمكنها أن تنضم إلى اتحاد فيدرالي أو كونفدرالي مع الأردن، في ظل واقع لا سيادي للطرف الفلسطيني، وذلك باستمرار وجود هيمنة إسرائيلية متواصلة في الأغوار. أي نشوء دولة أو دويلة بلا حدود وبلا ضفاف.

أما اللاجئون فهم خارج إطار أي تسوية ممكنة، إلاّ إذا جرى حل مشكلتهم في إطار الكيان غير السيادي المسمى فلسطينيا، وهذا قمة الإجحاف بحقهم، وحق أجيالهم التي لن تنسى ولن تتخلى عن ممتلكات “الغائبين” من آبائهم وأجدادهم “المتروكة”!، على امتداد الوطن الفلسطيني في الجليل والمثلث والنقب. وقد شهدت ذكرى النكبة الـ 63 هذا العام؛ أحد أكثر الرسائل أهمية تمسكا بحق العودة، وتأكيدا على تجسيد هذا الحق التاريخي الذي لا يمكن المساومة عليه أو التفاوض في شأنه، من دون أخذ اللاجئين أنفسهم لقضيتهم، وللمصير الذي لا بد من أن يقرروه هم بأنفسهم، كحق لهم ولأبنائهم من بعدهم.

وطالما أن قضايا الأمن الإسرائيلي والتحالفات الإستراتيجية القائمة مع الولايات المتحدة، هي من قبيل القضايا التي تتطابق الآراء والمصالح في شأنها، فسنبقى نشهد العديد من أشكال المزايدات حولها؛ بين داخل إسرائيلي قد تتباين الآراء ضمن صفوف مكوناته السياسية والحزبية والمجتمعية، وبين داخل أميركي تتسابق أطرافه على التنافس بتقديم أفضل شروط الولاء، لأهداف الكيان- المستعمرة الحافظة للمصالح الإستراتيجية الخارجية للولايات المتحدة، في قلب منطقة جيو إستراتيجية هامة يقع في القلب منها وجود إسرائيل في فلسطين، وتواجد النفط، كسلعة إستراتيجية هامة تطلبت وتتطلب العديد من أشكال الحروب، للاحتفاظ بها.

في خطابه الثاني (الأحد 22/مايو) أوضح الرئيس الأميركي ما لم يكن في حسبان نتانياهو لدى إلقاء خطابه الأول قبل ذلك بثلاثة أيام، وذلك حين أبدى هذا الأخير ارتياحه لخطاب أوباما الذي حمل توضيحات لا بد منها، كي لا يُفهم موقفه على أنه أقرب إلى المطالب الفلسطينية، لا سيما مطلب إقامة الدولة ضمن حدود عام 1967. بحيث جاء خطابه الأخير، كواحد من خطابات إعلان التأييد لإسرائيل؛ كيانا وأمنا وأهدافا ومطالب تفاوضية مع الطرف الفلسطيني. وهنا بالضبط مربط فرس الارتياح الإسرائيلي الذي كان محط التباس الخطاب الأول. وها هو خطاب أوباما في الأمم المتحدة، الذي اعترض فيه على اعتراف المؤسسات الدولية بالدولة الفلسطينية، “يشرّف” إسرائيل بحسب تعبير نتانياهو.

من هنا تبدأ الآن “حرب الحلفاء الإستراتيجيين” على هدف الاعتراف بالدولة الفلسطينية، في وقت يعتقد فيه أعداء الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، أن زخم التغيير والتحولات في الفضاء العربي العام، بات يقدم للشعب الفلسطيني المزيد من فسحات الأمل، وللشعوب العربية الإيمان بجدوى الانتفاضات والثورات الشعبية السلمية، في مواجهة أنظمة استبداد دموية وقمع بوليسي، وما يخلقه واقع التحرر من أمثال تلك الأنظمة من قلق متزايد داخل الكيان الاحتلالي الإسرائيلي.

وإذا كان هناك من يفكر بأن انتهاء المطالب وإنهاء الصراع، قد بات قاب قوسين أو أدنى، في اقترابه من ذاك المنحى التبسيطي الذي يقيم نتانياهو مبادئه الستة عليها، وتقيم القيادة الفلسطينية “دولتها” عبر مؤسسات المجتمع الدولي العاجز عن التقدم ولو خطوة إلى الأمام، لإسدال الستار على صراع تاريخي متواصل منذ أكثر من قرن على فلسطين، فإن ما يجري اليوم من ثورات على الاستبداد وأنظمته، يؤكد أن الكيان الاحتلالي الأكثر استبدادية وقمعية على الإطلاق، لن يكون في منأى أو منجى من تحولات التغيير التي تصيب هذه البلاد بأكملها، ويمكنها بتداعياتها أن تنتقل إلى بلاد العالم الواسع، فكما للاحتلال والاستبداد وجه واحد مشترك، كذلك لثورات الشعوب وانتفاضاتها وجهها الأكثر نصاعة؛ ضد كل أشكال التحالف الموضوعي مع الاحتلال، أو التغاضي عن جرائم الاستبداد.

ومهما ادعى أوباما عن قربه أو اقترابه من قوى التغيير والثورة في بلادنا، فهو بالتأكيد أبعد ما يكون من مصالح وأهداف التغيير الحقيقية لشعوبنا، وكل ما تحاوله الولايات المتحدة في ظل مأزقها المالي والاقتصادي غير المسبوق، محاولة استعادة زمام السيطرة على الأقل في هذه المنطقة التي فقدت فيها ركائز هامة لها، وأخذ الأمن الإسرائيلي بعين الاعتبار، إذ أن كل الاعتبار في نظرها؛ لما يحيل واقع الوجود الاحتلالي الإسرائيلي، كمصلحة إستراتيجية في هذه المنطقة إلى معطى مريح، بحيث لا تؤثر فيه ثورات شعوبنا وأهدافها ومطالبها التغييرية. أما الدولة الفلسطينية فمؤجلة إلى ما شاءت وتشاء المصالح المتداخلة والمعقدة للقوى الدولية والإقليمية، في ظل “القداسات” العقيدية والأيديولوجية، وفي ظل غياب الإرادة التحررية لوطنية فلسطينية موحدة، تنسجم على هدف التحرر الوطني. وهذا يحتم وجود استراتيجية كفاحية جديدة، تقطع مع ما بلي وتقادم وتكلس من وضع فصائلي وفئوي، بات هو العبء الأكبر على القضية الوطنية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى