ثقافة

“من كلّ وادٍ صدًى” للحقوقي سابا زريق… صوتُ كلّ وطنيّ، وصدى وجع كلّ لبنانيّ المصدر: “النهار” مارلين سعاده

قبيل نهاية العام 2022، عصر يوم الأربعاء في الثامن والعشرين من شهر كانون الأوّل، كان مركز الصفدي الثقافي في طرابلس على موعد مع حشد من أصدقاء ومحبّي سابا قيصر زريق رئيس “مؤسّسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافيّة”، الذين وفدوا من كلّ حدبٍ وصوب للاحتفال معه بإطلاق كتابه “من كلّ وادٍ صدًى”؛ وقد قام العديد من وسائل الإعلام، لا سيّما المكتوب منها، بنقل تفاصيل الحدث، والإضاءة على مَن حضر من شخصيّات، ومَن تناوب على إلقاء كلمات، أشادوا فيها بما قدّمه الحقوقيّ سابا قيصر زريق لطرابلس، من خلال “مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية” التي بدورها قدّمت – وما زالت تقدّم – الكثير في سبيل الحفاظ على لغتنا، وإنعاش الحياة الثقافيّة، ليس في طرابلس فحسب، وإنّما على كافّة الأراضي اللبنانيّة؛ وقد نلت أنا أيضًا نصيبي من الدعم والاهتمام، ممّا جعلني أعلن دومًا على الملأ وبفخر أن لـ”مؤسّسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافيّة” الفضل الأكبر في إطلاقي في عالم الفكر بعد غيابي الاختياريّ لسنين طويلة، وذلك من خلال كتابي “خيّ جيديوس” الذي كان، بعد مجموعة الآثار الكاملة لشاعر الفيحاء، أوّل إصدار ضمن منشورات المؤسّسة إثر إطلاقها، علمًا بأنّ قصّة “خي جيديوس” بقيت محجوبة في دُرج مكتبي خمسًا وعشرين سنة، قبل أن تقوم “مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية” بنشرها… كما دعمتني المؤسّسة بشخص رئيسها الدكتور سابا زريق مشكورًا، عند إطلاق كتابي الثاني “أبعد من حدود الوجود”.

لقد كتب سابا زريق الحفيد باللغتين الفرنسيّة والإنكليزيّة عددًا من الكتب التي تناول في معظمها قضايا قانونيّة، ناقلًا من خلالها تجربته في مجال تخصّصه، إضافة إلى موضوعات أدبيّة واجتماعيّة؛ وجاء كتابه “من كلّ وادٍ صدًى” الأوّل بين إصداراته، باللغة العربيّة، إذ اقتصرت كتاباته في لغتنا الأمّ على المقالات والمقدّمات أو المحاضرات والرسائل، التي دعاه صديقه المحامي والشاعر شوقي ساسين إلى جمعها في كتاب، فكان هذا الإصدار استجابة له، ولم يرَ الكاتب في الأمر ضيرًا طالما أنّ مؤسّسة شاعر الفيحاء تنشر للعديد من الكتّاب… وقد اختار له هذا العنوان لكونه يضمّ كتاباته المتنوّعة، فأتى “صدًى لعدّة وديان” (ص 9 التمهيد) قام المؤلّف بتقسيمها ضمن أبواب، يضمّ كلّ باب نوعًا منها: من المقالة، إلى مقدّمات الكتب، إلى المقابلات التي أجريت معه وتمّ تفريغها، إلى المحاضرات والكلمات التي ألقاها، إضافة إلى عدد من الرسائل المختارة؛ لينهي مجموعته بباب خصّ به جدّه شاعر الفيحاء.

لعلّي، في ما قرأت، أتوقّف عند ما أورده الكاتب في التمهيد على لسان صديقه الشاعر شوقي ساسين (ص 8) إذ قال: “تعرّفوا بعضًا من سابا”. وقد لمست ذلك لمس اليد، فالكتاب بكلّ ما تضمّنه ينقل لنا الفكر السياسي والثقافي والإنساني لسابا زريق؛ كما يبدو الانتماء الوطنيّ جليًّا في مقالاته التي يستعين فيها بأبيات لجدّه تعزّز انتماءه، وتشي بمدى تأثّره بهذا الجدّ الذي انطبع حضوره في فيحائه لأجيال عديدة، كما انطبع في وجدان الحفيد.

لا يسعنا ونحن نقرأ مقالات سابا زريق السياسيّة، إلّا أن نُكبر فيه حسّه الوطني، واهتمامه الكبير بوضع البلد وما يتخبّط فيه شعبه من أزمات متلاحقة، محاولًا كشف موضع الخلل والأسباب الكامنة خلفه. وإذا ما تأمّلنا في مقالته “الأكثريّة الصامتة والخطّ الثالث” (ص 39) التي نشرت بتاريخ 15 نيسان 2005، يتبيّن لنا أنّ لا شيء في واقعنا تغيّر، كأنّنا ندور في مكاننا من دون التوصّل إلى حلول، أو تغيير يكون فيه خير الناس. لذا نجده يتوجّه إلى “الأكثريّة الصامتة” لترفع صوتها مدوّيًا وتقول لمن أدخلوا البلد في دوّامة من اليأس والفقر المدقع “كفى، عليكم أن تتنحّوا، فقد أثبتّم فشلكم الذريع في إدارة شؤون الوطن والمواطنين” (ص 40). فلو أنّ هذه الأكثريّة الصامتة عملت بما نصحها به يومها، ربّما كنّا اليوم نعيش واقعًا مختلفًا، لا واقعًا أكثر سوءًا ممّا سبق، لكون الواقع اللبنانيّ المأزوم مرتبطًا بأولئك السياسيّين الذين يفتقرون إلى الوطنيّة، والحوار بينهم شبه معدوم.

إنّ الباب الأوّل من المجلّد يشكّل وثيقة وطنيّة، تكشف الواقع السياسيّ القائم في لبنان على مدى سنوات عديدة؛ ويهدف الحقوقيّ سابا زريق، من خلال عرضه له، إلى تصويب المسار، كاشفًا حقائق لا يجهلها معظمنا، ولكنّنا نتغاضى عنها، أو نستسلم معلنين عدم قدرتنا على القيام بأيّ خطوة تساعد على تغيير هذا الواقع؛ إلّا أنّ سابا زريق، رجل القانون الملمّ بشؤون الوطن، والمتابع لتفاصيلها، يسمّي الأشياء بأسمائها، ويدلّنا بالإصبع على مكمن كلّ علّة، واصفًا لها الدواء الشافي، ولكن “على من تقرأ مزاميرك يا داود”؟! لقد بحّ صوته وهو يشدّد على ضرورة أن نعي واقعنا وهويّتنا التي لا خلاص لنا إلّا بها، فـ”هويّتنا هي لبنان… إنّ وحدة الهويّة اللبنانيّة هي الدرع الحقيقية للوطن. فليكن ديننا لبنان، ومذهبنا لبنان، وهويّتنا لبنان”. (ص 89) وهو يستعين بأبيات كتبها جدّه شاعر الفيحاء منذ عقود، تعكس الواقع إيّاه، كما في القصيدة المدرجة ص 97 التي يتساءل من خلالها الشاعر الجدّ “متى أرى وطنًا”؟! وهي التي إن دلّت على شيء فعلى مدى تجذّر الأزمة وعمقها في الزمن، فإن كلّ ما قاله شاعر الفيحاء في زمنه منذ عقود، ينطبق على واقعنا اليوم، ممّا يؤكّد مدى تخاذل الناس، وخضوعهم، وخنوعهم، إذ يستمرّون في العيش أزلامًا لا مواطنين حقيقيّين. وهو الأمر الذي حاول سابا زريق الحفيد أن ينبّه له؛ وقد أفرد مقالًا لموضوع المواطنة (ص 114) لما لها من أهمّيّة في تغيير واقعنا، وإخراجنا من دوّامة الذلّ التي تحاصرنا؛ كما خصّ اتّفاق الطائف بمقال فنّد فيه بنوده وأجزاءه، مشيرًا إلى مواضع الضعف فيه، وتعمُّد فئات سياسيّة معروفة عدم تنفيذ قسم من بنوده لغايات لم تعد خافية على أحد.

أرفق الكاتب المقالات السياسيّة التي افتتح بها المجموعة بمقالات له غير منشورة سابقًا، لعلّ ما يميّزها عمّا سبقها، طابعها الأدبيّ والإنسانيّ، فهي تعبّر عن مدى وجعه ورفضه لهذا الجمود وهذا الخضوع؛ حاول من خلالها أن يُطلق صرخة مدوّية بوجه المسؤولين عمّا آلت إليه حال البلاد والعباد، علّها توقظ ضمائرهم، مؤكّدًا لهم أنّ هذا الشعب لن ينكسر، وسيبقى لهم بالمرصاد؛ وقد أشار إلى طاقات اللبنانيّين وقدراتهم التي يمكنهم استغلالها لتحقيق ما نصبو إليه (ص 134). نجده يسعى جاهدًا لتقديم مقترحات تساعد في إيجاد حلول للوضع القائم، متمسّكًا بإيجابيّته وإيمانه بإمكانيّة الإصلاح و”رسم سياسة الحوار المستقبليّة” (ص 135)؛ في صرخته إيمان عميق بالإنسان، إلى أيّ دين انتمى؛ فهو يتعامل مع الناس من منطلق إنسانيّ محض، وما صوته إلّا صدى صوت اللبنانيّين المقهورين والمغلوبين على أمرهم، مؤكّدًا أنّهم يدركون جيّدًا ما يجري التخطيط له، ومدى تهديده لمصيرهم… كما يتوقّف عند المساعدات التي تصلنا من كلّ حدب وصوب، والتي أجاد توصيفها إذ سمّاها “سلاح الإغاثة” (ص 129)، غامزًا من ناحية الأهداف الكامنة خلفها، والمصالح التي تنشدها من خلالها الدول المانحة.

برأيي، إنّ الباب الأوّل في كتاب “من كلّ وادٍ صدًى”، يشكّل صورةً معكوسةً كما في مرآة لِما تؤمن به شريحة كبيرة من اللبنانيّين في ما خصّ سياسات المسؤولين عن هذا البلد؛ فالجرح واحد، والغضب على مسبّبيه واحد، والرؤية الناتجة عمّا نتخبّط فيه واحدة. كلماته تشعّ كالنور كاشفة مدى الضرر الذي سبّبه السياسيّون، وما قد يؤول إليه مصير اللبنانيّين جرّاء سياساتهم القائمة على مصالحهم الخاصّة.
إنّه صوت كلّ وطنيّ، وصدى وجع كلّ لبنانيّ؛ لذا، خليق به أن يتحوّل إلى كُرَّاس يوزَّع على كلّ مسؤول عن إذلال هذا الشعب، ليتعلّم كيف يصبح وطنيًّا، وعلى كلّ وطنيّ كي ينتفض ويغيّر واقعه معليًا راية الحقّ.
24-01-2023 | 13:04

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى