المقالات

سؤال برسم محكمة العدل الدولية؛ كيف لجلاد أن يكون عادلاً مع ضحاياه؟\ المصدر: “النهار” \ بقلم إيمان درنيقة الكمالي – أستاذة جامعيّة – باحثة سياسيّة

“بعد أن سطا لصّ على منزل أحد الأشخاص وقتل بعض سكان المنزل، اعترفت المحكمة بأدلّة إدانته، لكنّها طالبته بالاعتناء ببقية الأفراد وتوفير الرعاية لهم”.
قصّة قد تبدو “غريبة” بعض الشيء، فكيف “يوكل” المجرم “حارسا” على ضحيّته؟

في الواقع، هذا ما قامت به محكمة العدل الدولية، والتي أقرّت، في السادس والعشرين من الشَّهر الحالي، بأنّ “الأدلّة التي قدّمتها جنوب أفريقيا، والتي تؤكّد ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية بحقّ الفلسطينيين، متماسكة قانونيّاً ومعقولة منطقيّاً؛ إلّا أنّها لم تطالب إسرائيل بوقف إطلاق النار، أو تُصدر أيّ إدانة قضائية رسمية بحقّها، بل اكتفت بالإيعاز لإسرائيل باتّخاذ إجراءات وقائيَّة لتلافي وقوع المزيد من أعمال الإبادة، وتوفير الحاجات الإنسانيّة الملحّة في القطاع، كما أوكلتها مهمّة التقدّم بتقرير للإفصاحِ عن الإجراءات المُتَّخذة في مهلة شهر.

لا شكّ في أنّ هناك نقطة إيجابية و”بصيص أمل”، في قرار المحكمة. فهذا القرار يشكّل ضربةً معنويَّةً للكيان الإسرائيلي من أعلى المراجِعِ الدَّوليَّة، وخلخلة للرواية الرّسمية الصهيونية، التي مفادها “أنّ الإسرائيليين يمثّلون حالة استثنائيّة، ويتمتّعون بحصانة لا يمكن لأحد أن يفكّر في أن يتخطّاها”؛ وهذا بحدّ ذاته انتصار كبير.

فلطالما كان السّلاح مسلّطاً على رقبة كلّ من يوجّه أيّ اتّهام لإسرائيل؛ أمّا اليوم فإنّ أعلى محكمة دولية في العالم تعترف بجرائم الإبادة التي ارتكبها الكيان الإسرائيلي؛ وهذا بحدّ ذاته تحوّل جذريّ في جوهر وصلب الرواية التي كانت إسرائيل تفرضها نفسياً وذهنياً وعقلياً على العالم…
لكن ما النّفع إن أكّدت محكمة العدل الدولية الرواية الفلسطينية، من دون أنْ تفعل ما يكفي لتحقيق العدالة؟

المؤسف في هذا القرار أنّ رئيسة المحكمة “جوان دونوغو” الأميركية قد ذكرت أنّ حركة #حماس وكتائب القسام هم الذين بدأوا بالقتال في #غزة في 7 تشرين الأول، من دون الإشارة إلى أن إسرائيل ارتكبت وما زالت ترتكب جرائم مروّعة في فلسطين منذ أكثر من 75 عاماً. وكأنّها عنت بذلك أنّ إسرائيل كانت في “حالة دفاع عن النفس”، بعد أنْ هاجمتها غزّة. كما ذكرت “دونوغو” أنّ الفلسطينيين أسروا 250 إسرائيلياً، لكنّها أغفلت ذكر آلاف الفلسطينيين المحتجزين في السّجون الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلّة.

فلماذا لا تعود مرجعيّة الدعوى إلى ما قبل 7 تشرين الأول، وربما إلى بداية العام 1948؟
‏لماذا لم يُطلب من جهة محايدة أو طرف ثالث متابعة تنفيذ قرارات المحكمة وتقديم التقرير، بدلاً من التوجّه بهذا الطلب إلى إسرائيل التي بالطبع ستقدّم تقريراً يجنّبها الإدانة، ويحتوي على ما يروق لها من مبرّرات قد تكون بعيدة عن الحقائق؟ ‏وكيف للمحكمة أن تمنح مدّة شهر لتقديم التقرير، وهي مدّة طويلة، في حين أن الضحايا يتساقطون يومياً بالمئات، والقضية مغزاها إنساني عاجل وملحّ، ولا يتحمّل مزيداً من ضياع الوقت؟

نحن نرى أنّه كان من الأجدى أن تأتي المحكمة بقرار ينظر بعين الإنصاف والعدالة والرحمة إلى ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني من إبادة جماعية، وحصار، وتمييز، وأن تتخذ حكماً أكثر جرأة وقوّة بشأن إيقاف العدوان الإسرائيلي على أقلّ تقدير، وإدانة إسرائيل.

نحن نعلم أنّ قرارات المحكمة هي قرارات غير ملزمة، ولا يُمكن تنفيذها إلّا عبر مجلس الأمن، الّذي من المتوقّع أنْ يفشل في وضع هذه القرارات موضع التَّنفيذ بموجب الفصل السَّابع، نتيجة استعمال إحدى الدول الدائمة العضويَّة فيه حق النَّقض “الفيتو”.

كما نعلم أنّ “إسرائيل”، وفي حال تمّ فرض عقوبة عليها، لن تستجيب لحكم المحكمة، ولن تطبّق أيّ قرار.

لكنه كان من الأولى على المحكمة، وحفاظاً على “ماء وجهها” وهيبتها، ومكانتها، وصدقيّتها ومناقبيتها، لو أنّها أصدرت إدانة وعقوبة رسميّة بحق إسرائيل التي مارست أفظع الجرائم ضدّ الانسانيّة، وجرائم الإبادة في المستشفيات والمدارس ودور العبادة، على مرأى ومسمع العالم كلّه، مستهدفة المدنييّن بشكل عام، والنّساء والأطفال بشكل خاص، ومنتهكة كلّ الأعراف والأصول والضّوابط الأخلاقية والإنسانية…

  • أيّ أمم متحدّة هذه؟
    أليست هي التي قرّرت تقسيم فلسطين في العام 1948، منفّذة وعد بلفور لليهود، وأعطتهم 58% من مساحة الأراضي الفلسطينية، والتي تخطّاها الإسرائيليون في ما بعد ليأخذوا حوالَي 77% منها؟
  • مَن الّذي أنشأ محكمة العدل الدولية؟ أليس هو نفسه الّذي أنشأ “إسرائيل”؟
    *كيف لفلسطين أن ترجو العدالة من “جلّادها”؟ وكيف لقانون أن يُطبَّق مع جهة ترى نفسها أقوى من القانون؟

إنّ القضية الماثلة أمام محكمة العدل الدولية هي أكبر من حدث في فلسطين؛ إنّها قضية كلّ من يدافع عن الحقوق والعدالة الإنسانيّة… قضية الشّعوب المستضعفة والمنتهكة حقوقها في العالم بأسره، والتي أثبتت وما زالت تثبت أن المؤسّسات الدوليّة ليست إلّا “سلطة بيد الدّول” التي أنشأتها.

ففي عالم الغاب، “القوة” وحدها هي القانون.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى