المقالات

فى الثمانينات

بقلم : الدكتورة هبة مهتدي

جاء الربيع وتفتحت الزهور وجاءنا صوت السندريلا الجميلة وهى تتغنى الدنيا ربيع والجو بديع ، ولكن الامتحانات صارت على الأبواب و كالعادة اتفقت معى والدتي على الذهاب للقاهرة لشراء بعض الملابس الجديدة قبل الانشغال بالامتحانات وبالفعل اخترنا اليوم و تم الاتفاق مع السائق ( عم عبدالمنعم )الذى سيصحبنا طوال اليوم وفى السيارة استأذن عم عبد المنعم الوالدة فى الاستماع لشريط كاسيت دينى وبالفعل أدار كاسيت السيارة و بدأ فى الاستماع .
وبينما كنت سارحة فى الطريق والأشجار والسماء أفكر فيم يجب على الانتهاء من مذاكرته أفقت من أفكاري على صوت الشيخ الذى يتحدث فى الكاسيت وهو يصرخ مهددا بالويل والعذاب لكل من يستمع للموسيقى والغناء وظل الشيخ يذكر ويستفيض فى وصف هذا العذاب الأليم مم جعل دقات قلبي تتسارع خوفا إذ أنى أحب الموسيقى وأستمع كثيرا للموسيقى الناعمة والكلاسيكية أثناء المذاكرة أو القراءة كما أنى أعشق الاستماع لفيروز خاصة أمام البحر أو حين أسهر فى حجرتى ليلًا ويشجينى ويطربنى سماع حليم وأم كلثوم ووردة ونجاة وغيرهم
وبينما أفكر وأحاول استيعاب ما يقوله الشيخ سمعته يتحدث بصوت أهدأ قليلا ويتحول إلى السخرية بدلًا من الصراخ والتهديد فبدأ يقول ما معناه أنه يعجب لأحد المغنين الذي يقول ( جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ) ويقول يا رجل أحقا لا تعلم ؟ وأسمع همهمة وضحكات من يستمعون له.
ثم يقول بعدها وأعجب أيضا كيف لعجوز فى السبعين من عمرها تقف وتتمايل فى خلاعة ودلال قائلة ( خذنى فى حنانك ) وهنا شعرت يإستياء شديد وبدأت مرة أخرى أفكر وأقول لنفسى:
معقول !هل يقصد أم كلثوم ؟ فهذه هى أغنيتها ولكن كيف هذا ؟ ثم لم يسخر منها هكذا ألم يأمرنا الله بألا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ؟ ثم لم يقول عنها أنها خليعة فلم أرها يوما ترتدى ثيابا خليعة بالعكس كل فساتينها جميلة وأنيقة ومحتشمة أيضًا
لعله لا يقصد الملبس بل يقصد التصرفات وهنا ابتسمت لا لا يمكن هذه السيدة تحديدا تقف شامخة أبية كالأسد حتى أنى كنت أخاف منها وأنا طفلة وأقول لم تغنى بهذه الجدية وكنت أحيانًا أقول أنها كمن يؤدى مهمة رسمية وهنا تذكرت ما سمعته عن مجهوداتها من أجل دعم مصر بعد النكسة وكيف غنت فى أرقى مسارح فرنسا وأعجب بصوتها شارل ديجول وكيف وكيف وكيف …وبينما كنت أفكر سمعت والدتى تقول للسائق من هذا الذى يتحدث فسمعته يقول: (ده شيخ مخه يوزن بلد ولكن شرائطه غير مسموح بيعها، أنا واحد صاحبى أخذ هذا هدية من صديق له يصلى فى الزاوية القريبة من بيتهم ).
مرة أخرى أتذكر حديث أمى عن حفلات أم كلثوم الشهرية وكيف كانت الأسر والأصدقاء والجيران يرتبون للاجتماع معا لسماع تلك الحفلات فى الراديو. وكيف كان من الوجاهة الاجتماعية الذهاب لحضور الحفل شخصيا و كيف كانت السيدات ترتدي ازياء أنيقة و الرجال يرتدون البذل الرسمية فى هذا الحفل.
ثم كيف كانت جنازتها المهيبة والتى خرج فيها الملايين لتوديعها
مرة أخرى يقطع حبل أفكارى صوت امى: يا عم عبد المنعم نزلنا هنا وأنا والبنت سوف نذهب بعد ذلك إلى شارع قصر النيل وأنت اركن السيارة فى أقرب مكان مسموح وتعالى لنا بعد ساعتين عند حلواني العبد.
بمجرد أن نزلت من السيارة وبدأنا جولتنا حتى تناهى إلى مسامعي من أحد المحال التجارية صوت عدوية يغنى “كركشنجى ذبح كبشه”
فضحكت قائلة وماذا يهمنا نحن ان كان ذبح عجله ولا خروفه ولا كبشه ؟ ولما تكون مثل هذه الجملة كلمات أغنية ؟ ولكني قلت لنفسي عموما أنا سمعت أن مثل هذه الأغنيات غير مسموح بإذاعتها في المذياع خوفا على الذوق العام
وتمر عقود و تنهار الأغانى وتظهر المهرجانات و نفاجأ بالإسفاف والشتائم فى الأغنيات وبينما أقلب قنوات التليفزيون يوما إذ بإحدى المذيعات تحاور المغني القدير الذى أثرى الغناء الشعبي ( على حسب قولها ) و يظهر لنا على الشاشة “أحمد عدوية “
وتقول له المذيعة: “هل ممكن حضرتك تقيم الموقف الحالى للغناء الشعبى و تكلمنا عن تاريخك ونجاحاتك واختيارك لكلمات أغانيك الجميلة التى لن تكرر “

تنهدت فى حسرة قائلة:
عجبى عليك يا زمن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى