المقالات

إنهيار اللبنانية \ د. قصي الحسين

جرت العادة، في العناوين و الكتابات الصحفية والإعلامية، أن نقول “اللبنانية”، إختصارا للقول: “الجامعة اللبنانية”. غير أنه، لا المقال ولا المقام، ها هنا، يراد له أن ينحصر في الحديث عن إنهيار الجامعة اللبنانية، بعد المقالة التي خصها بها د. جان داود: الجامعة اللبنانية والتعليم المستدام. “قضايا النهار:20/7/2022 – ص7”. وإن كان الخيال الأولي للقارئ، يشي بذلك. وإنما المراد هو الحديث عما يرد فورا إلى الخيال الثانوي في القول: “إنهيار اللبنانية”. أي إنهيار الفكرة اللبنانية المؤسسة للبنان، شعبا ودولة ومؤسسات.. والتي تم الإنبناء عليها، كفكرة، كثقافة، كوعي شعبي، وكحضور تاريخي، وريادة دولتية. فإعتبرت فكرة رائدة، منحتها هوية وخصوصية، منذ عهد الإمارة وحتى تأسيس الكيان.

لهذا نقول: لم يصب الإنهيار ، الجامعة اللبنانية في مبانيها وفي أقسامها وفي فروعها، وفي دوائرها، بل تعدى الأمر للضرر بفكرة الجامعة اللبنانية نفسها: التعليم الرائد المستنير. والشهادة الأكاديمية التي لا تعادلها أية شهادة جامعية في الجوار الإقليمي، و”خريج اللبنانية”، الذي يبحث عنه سوق العمل. والأستاذ أوالمدرس الجامعي اللبناني. وبالتالي الثقافة اللبنانية، من حيث التفتح على الثقافات العالمية. والحرية الليبرالية التي تدفع بالمنافسة إلى أقصى الحدود. والإنتاجية الأكاديمية ذات القواعد العلمية العميقة. تلك القواعد المبنية حكما و في الأساس على ركيزتين: “اللبرنة” و”العلمنة”.منذ عهود الفينيق والإغريق. وبعدها، حتى قبل عصر الأنوار بكثير.

“إنهيار اللبنانية”، يعني إذن، إنهيار الفكرة، بل المعنى من جهة الجامعة اللبنانية. وأما الباقي، فهو من التفاصيل. ولو تمت المحافظة على “اللبنانية الجامعية”، بمعناها، وبفكرتها، لما آلت جميع هذة المباني إلى الإنهيار دفعة واحدة، كما يبدو اليوم، حتى ولو كانت في أحدث مظاهرها عظمة. والتمثيل على ذلك عندنا، إنما ينهض شاهدا مرا للعيان: في مباني الكليات الجامعية المترهلة والمتساقطة في الحدث. وفي مباني الكليات الثلاث الحديثة جدا جدا، في الشمال. والتي يصل عويلها من “تلة سباط/ الهيكلية”، إلى طرابلس والميناء والكورة وزغرتا والضنية وعكار. حيث ضربت “اللبنانية” فيها فكرة، قبل أن تضرب، هياكلها ومبانيها، التي تؤول جميعها، حاليا، إلى التساقط والتهاوي و الإنهيار. ولو من خلال غياب الأساتذة والطلاب، وتفشي ظاهرة إغلاق الأبواب.

“إنهيار اللبنانية” معنى، فكرة، هو المؤسس حكما، لإنهيار كل شيء بعده في لبنان: جامعة ومدارس وثانويات ومستشفيات. ثم ليتوالى “الإنهيار” فصولا، في سائر القطاعات الإنتاجية. بحيث صار التخلي عن فكرة الجودة والتمايز، لصالح فكرة الإندراج في مشابهة الجوار، خططا دولتية، تعاني من “ترييف” السلطة وطغيان العسكرة وتفريخ الشلل الشعبوية الخارجة على القانون. وظهور المافيات، وما يتصل بها من سائر الآفات الإرهابية التي لا تعد و لا تحصى.

فحين تختل ركائز “اللبنانية” فكرة، يتعرض لبنان كله للإختلال. تبدأ أخطار الخلل، حين تصيب مقاتل الوطن، كيانا. ذلك الوطن الذي نشأ منذ عهد “الإمارة”، على فكرة الحرية والديمقراطية والعدالة الإجتماعية، والإندماج والتعاون والتنازل والتسماح بين الجماعات وبين الطبقات وبين الطوائف وبين الأحزاب، لإجل الإندفاع في بناء “اللبنانية” في النفوس، تماما، كما بنيت لاحقا في النصوص، من خلال القوانين المرعية الإجراء. ولاحقا، من خلال بنود الميثاق والدستور.

وتشير جميع الوثائق المحفوظة في الأرشيف اللبناني، منذ عهد الإمارة، وحتى بلوغ الكيان مؤسساتيا، إلى أن فكرة “اللبنانية”، بوجوهها المعروفة، إنما تقوم على التميز وعلى التنوع والتسامح. وعلى التعددية والتعايش بسلام، بين الإختلافات. وهذة الفكرة، برأينا، هي التي إنهارت في النفوس أقله في الحربين الأهليتين: العام 1958. والعام1975. وإن هي لا تزال تحفظ في النصوص. رغم أنها لا تزال مستمرة منذ ذلك الحين، بالتآكل، نتيجة الإستقواء الطائفي. ونتيجة الإستقواء الحزبي. ونتيجة التضارب المعرفي وصراعات القوى، المحلية والخارجية، في تحديد الهويات اللبنانية. فباتت “اللبنانية”: كيانا، ودولة ومؤسسات، مهددة بالإنهيار، بعدما أصيبت بجميع العوارض المهددة لها. وبجميع الهزات السياسية والطائفية، الداخلية منها، والخارجية، التي أنهكتها، طوال المئوية الآفلة. وخصوصا، خلال فترات الحروب والأزمات التي توالت على ضرب “الصيغة” في لبنان.

إن تطوير “اللبنانية”- “سويسرا الشرق”، كان مشروع الدولة، الذي إنطلق في العشرينيات والثلاثينيات. وقد إرتبط بأمرين متشابهين:
الأول هو إختيار البرهة التي ينظر إليها، بأنها برهة التأسيس للدولة اللبنانية الحديثة. والثاني، هو تحديد الآباء المؤسسين، الذين أرسوا قواعد الفكرة اللبنانية. وتعتبر برهة الإستقلال، هي برهة التأسيس. كما يعتبر رجال الإستقلال، هم الآباء المؤسسون. ناهيك عن الدستور والميثاق، اللذين أسسا لتفاهم اللبنانيين، على “اللبنانية العميقة”، على جميع الصعد والمفاهيم. وقد غدا كل ذلك من الذكريات الجميلة. تماما كما نتغنى اليوم بالسهر على ضفاف نهر البردوني، وفي ظلال مهرجانات بعلبك وبيت الدين. وفي كازينو صوفر وفي ظلال قلعة بيت مري. وفي أعراس القلاع البحرية، الممتدة من رأس الناقورة، حتى منتجع المياه المعدنية الساخنة في السماقية، بسهل عكار. وأيضا في بحيرة القموعة.

إن إسهامات الفكر السياسي، الذي رافق مرحلة الإستقلال، وإعلان الدستور والميثاق، هي التي كانت قد بلورت “الفكرة اللبنانية” القائمة على الإستقلال والحياد. وعلى أن لا تكون الأراضي اللبنانية ممرا، و لا أن تكون أيضا وبالمماثل، مقرا، لأي مشروع خارجي. وقد حفظت “اللبنانية” بالتجربة، في الخيمة التي نصبت للقاء الرئيسين: فؤاد شهاب، وجمال عبد الناصر على الحدود اللبنانية – السورية في محلة المصنع وجديدة يابوس. بحيث صارت في شكلها وفي مؤداها، تجربة رائدة في الشرق ، كما في الغرب. فكسبت “اللبنانية العميقة”، ثقة الدول العربية، تماما كما كسبت ثقة الدول في الخارج. فكان لها أن تشكل نموذجا رائدا، لجميع الدول في الخمسينيات وفي الستينيات. نموذجا رائدا، أقول: جوهره البعد الثقافي في “تميز الدولة”، عن سائر دول الجوار، في الحرية والديمقراطية والعدالة الإجتماعية وفي الحفاظ على التراب الوطني والحياد الإيجابي. وفي الأسلوب الذي إتبع في الدستور اللبناني وفي أصول الحكم، وأسلوب تصعييد السلطات وإنتاجها في البلاد. وفي التشدد بالحفاظ على السيادة والإستقلال والحياد عن النزاعات، والنأي بالنفس عن جميع الأحلاف العربية والإسلامية والأممية. وعن جميع أشكال المعسكرات.

وربما إكتسبت “اللبنانية”، هوية ومعنى، من خلال الجغرافيا الجديدة، بعد إعلان الجمهورية، في العام 1920. وقد ذهب المحللون إلى الإستنجاد بالجغرافيا. وبما أسموه وعرف فيما بعد، ب “عبقرية المكان”. غير أن تحديد الإطار المرجعي ل “اللبنانية”، إنما كان يكمن أيضا، في عبقرية اللبنانيين أنفسهم، وما كان لهم من التراث الفكري، الذي واكب برهة التأسيس للكيان. فإستمدوا صيرورتهم القوية، من قوة تاريخهم السيادي في البحار. ومن قوة تاريخهم التأسيسي للممالك السيادية، في أرواد وطرابلس وجبيل والبترون وبيروت وصيدا وصور، وبعلبك وعنجر ودير القمر وبيت الدين. على إمتداد أزمنة التاريخ كلها في عهود الصعود، لا في عهود الهبوط والسقوط.

وهناك أيضا، الفكرة المرتبطة بالإنفتاح على الخارج، ورفض الإنغلاق والعزلة أو الإنكفاء إلى الداخل. بحيث كان يشعر اللبنانيون، أن دورهم، يتجاوز حدودهم. فكان أن تمددت “اللبنانية العميقة” بالإنفتاح على الخارج، بقوة الفكرة والنموذج. وبقوة الإنتاج. وبقوة الثقافة والعلم والحرف. وبقوة الإرادة في التواصل، مع دول الجوار. وربما بعيدا، إلى أقصى الأرض.

والسؤال المهم على هذا الصعيد، هو: ما أهمية “اللبنانية” كفكرة في بناء الدولة، خارج دغدغة المشاعر الوطنية، أو خارج العبارات الشاعرية التي تتحدث عن “تميز” الدولة اللبنانية. وعن تميز الشعب اللبناني. والجواب، إنما يكمن في الأبعاد السياسية، التي تساهم في البناء والنهوض، ولا تؤدي في نهاية المطاف إلى الإنهيار والسقوط.

فهل تشكل “اللبنانية العميقة”: بما هي “البوصلة” السياسية والفكرية للمجتمع اللبناني، فتحد من ظاهرة التفسخ والتساقط والإنهيار، بعد الإمعان في الشرذمة والإنقسام. وبعد الغرق في مستنقع الفساد، الذي رهن أصول الدولة للبيع، في أسواق المزادات. وبعد الإنذارات المتواصلة للحكومة اللبنانية، وللجمهورية اللبنانية. وللبنان بعامة، بأن البلاد جميعها آيلة إلى التهاوي والسقوط، غب العشرات من الأيام.

إن التعويل على إستنهاض فكرة “اللبنانية العميقة”، هو المقدمة الأولى، للبناء الوطني. وهو بالتالي الطريق الأسلم و الأصوب، للإسهام في بلورة “الشخصية اللبنانية”، من خلال المناهج التربوية ومن خلال الدراسات الإجتماعية، لبناء جيل جديد يلتف حول “الفكرة اللبنانية”، بدل أن تذهب ريحه، في جهات شتى، فيذهب بذلك بالوطن، الذي هو في الأصل، أصل هويته الكيانية الأصيلة. وكذلك: بيته وحلسه، وقوقعته الأخيرة.

ف”اللبنانية العميقة”، هوية ومعنى، وثقافة وإستراتيجية، لجميع اللبنانيين، هي التي تمنع تعرض الهوية والثقافة الوطنية، لضغوط الذوبان، في الظاهرات المستحدثة للحروب الماضية والحالية و القادمة. وللتدخل ككتائب أشبه بالمرتزقة، خارج البلاد، في مناطق الحروب. وبقدر ما تكون “اللبنانية العميقة” قوية في النفوس، بقدر ما نحول دون إنهيار جدران لبنان. بل دون “إنهيار اللبنانية”: مؤسسات وقيما وتراثا مكينا. وهوية شخصية قوية وصلبة وجامعة للجميع. بإعتبار لبنان وطنا نهائيا لجميع اللبنانيين، على حد توصيف سماحة العلامة الإمام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين.

د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى