التحقيقات

مسار تاريخي بجزئيه الثيولوجي والطبيعي ينتج حاضرا”سيئا”

   هنالك التاريخ الطبيعي والعلمي L'histoire naturel et 

scientifiique والتاريخ الديني L’histoire religieux . وهنالك فرق بين التاريخين. فالأول يستند إلى أدلة حسية وآثار وتجارب وأبحاث وتنقيب. فما تحت الحواس وماتدركه ويقبله العقل هو مجال التاريخ الطبيعي والعلمي. أما التاريخ الديني فيستند إلى نصوص موجودة في مخطوطات أو كتب يعتبرها المؤمنون بها مقدسة ومنزلة أو موحى بها أو نتيجة إلهام روحي وتحتوي هذه النصوص ذكر أشخاص وأحداث وأمور لاتقع تحت الحواس والعقل ويتعامل معها المؤمنون بالأديان والمذاهب الدينية على أنها حقائق ويقينيات ومسلمات لاجدال فيها، وأنها ليست أساطير وخرافات كالتي تذكرها المدونات والنصوص الموجودة في النقوش و المخطوطات الأثرية.وهذا الإختلاف في المصادر والأسس والمرتكزات جعل السرد الزمني والوقائع وتسلسلها وغائيتها في التاريخ الطبيعي والعلمي غير ماهو موجود في التاريخ الديني، ففي التاريخ الطبيعي والعلمي نظرية الإنفجار العظيم Big Bing التي سبقت نشوء الكون l’univers الذي يقدر عمره بستة عشر مليار سنة، فيما يقدر عمر الأرض بستة مليارات سنة وقد مر الكون بمراحل زمنية طويلة من الإنفجارات والإضطرابات والتحولات والخمود والهدوء حتى اليوم حيث لاتزال هنالك إنفجارات نجمية Suprnova في الكون، وتكون نجوم وكواكب جديدة، وكذلك إضطرابات في الكواكب وخاصة كوكب الأرض.
التاريخ العلمي والطبيعي يأخذ بالعلل اللامتناهيةInfinite فيما التاريخ الديني يأخذ بمبدأ العلة الأولى. وكلاهما يبدآن بتخيلات وتصورات وينتهيان بتخيلات وتصورات ليست في متناول الحواس والتجارب والعقل المنطقي والواقع. وسواء وجد العالم l’univers من عدم أم لا، بالصدفة أم بتدبير وتصميم من قبل إله غير محسوس، وذي قدرة مطلقة، وسواء تطور الإنسان والكائنات الحية من خلية واحدة أم من آدم وفق التاريخ الثيولوجي والديني، فالأهم هو قيمة الإنسان الفرد وعقله وإرادته وحريته واستقلاله وحقوقه وسط الكون والبشر الآخرين وهل التاريخان والمساران مع الحاضر الناتج منهما ينصفانه أم أنهما يضعانه تحت ضغوط الإيديولوجيا والعرق والمذهب الديني والسياسة الآنية والإنتخابية والحروب والعواطف الجماعية والشعبية وحالة القطيع الإجتماعي والتفسير المادي والإقتصادي للتاريخ، ومشاريع الإستعمار والتوسع وردات الفعل عليه،وحكم الأكثرية. فكلا التاريخين موضع استغلال من قبل قوى وجهات و جماعات لأجل الإستعمار والإحتلال والتوسع أو السلطة والثروة والنفوذ والتفوق، وخاصة التفوق الإقتصادي والتكنولوجي، و إحياء أحداث تاريخية عمرها عشرات القرون وحتى مئات القرون واستحضارها إلى الواقع الحاضر. وأكبر استغلال للتاريخين الثيولوجي والديني والطبيعي هو ماقامت به الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، واستمر هذا الإستغلال مع احتلال فلسطين سنة 1948 وصراعاتها وحروبها وصولا”إلى الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة. ورغم الإختلاف بينهما كلا التاريخين يقومان على مبدأ التطور والإرتقاء والبقاء للأصلح، ولكنهما لم يصلا إلى هذا التطور والإرتقاء والبقاء للأصلح والأفضل بل أصابهما النكوص والإرتكاس، فلم تتطور الأديان من حالة الوثنية والصنمية والجاهلية إلى حالة التوحيد المطلق لله وتحرير الإنسان من عبادة الأشخاص أو تقديسهم والولاء لهم ووضعهم فوق الطبيعة والعقل وسائر البشر ولايلمس هذا التطور في تحسين مستوى الأخلاق وتحقيق العدالة والحرية الفردية والفكرية وقيمة الفرد والحؤول دون حدوث الحروب وتأكيد هدف الوصول إلى الجنة paradise عبر ترسيخ دين التوحيد وترسيخ صفات الجنة في الدنيا مثل الهدوء والراحة النفسية والعدالة والحرية الحقيقية والأمان بدلاً من دين المظاهر والأحزاب وتقديس الأشخاص والولاء لهم والضجيج والإزعاج والجمود والتسلط وهي صفات جهنم!
وكذلك التاريخ الطبيعي والعلمي والوضعي لم يصل إلى هذا التطور والإرتقاء في مجالات الأخلاق والحرية والعدالة والكرامة والتوازن والأنظمة السياسية والإجتماعية والإقتصادية، وأقصى ماوصل إليه هو تطور وسائل التكنولوجيا والعلوم والإقتصاد والعمران وأدواتها، ولكن هذا التطور تشوبه نواقص وأوجه قصور، ولم يتواز هذا التطور مع تطور الفكر والنفس والسلوك والمجتمع، ولاتزال البدائية والتخلف يتحكمان بالسلوك وطريقة استعمال وسائل التكنولوجيا والعمران مثل طريقة سواقة السيارات والدراجات النارية على الطرقات ووسائل التواصل والإعلام Social Media & Mass Media، حيث السلوك المزعج والإستفزازي والتجسسي والمؤذي والمهين بل إن التخلف والفجاجة والسطحية والشعبوية والتبعية لاتزال تتغلغل في مفهوم السياسة والإجتماع والإقتصاد والمناهج والمسالك والوسائل المتعلقة بها بالإضافة إلى الحروب التي لاتزال منذ العصور القديمة حتى العصر الحالي في المفهوم والتصور والواقع قمة الصراع وإحدى وسائل السياسة.
كلا التاريخين هما تاريخ جماعات لا تاريخ أفراد، فلا قيمة للعقل والإرادة الفرديين بل القيمة هي للأساطير والإيديوجيا والمعتقدات والعواطف والمصالح الجماعية، وهذا ما عبر عنه جوستاف لوبون بالقول :”العواطف لاالعقل هي التي تسير الأمم وتقيمها وتقعدها”، و”لاتتقدم الحضارات بالجموع التي هي لعب تسيرها العواطف”. ويقول جان جاك روسو في كتابه Le contrat Social :”إن الأفراد حين يفوضون حقوقهم للجماعة ككل، يفقدون جميع حرياتهم”. ففي التاريخ الطبيعي، أحادية الخلية أو ذات الخلية البسيطة هي أصل الإنسان والكائنات الحية، وتطور الإنسان الأول من كائن يشبه القرد في أحد العصور الجيولوجية الموغلة في القدم أي منذ ملايين السنين، ويعني ذلك أن هذا التاريخ لن يعطي العقل وإلارادة الفرديين الأولوية على العاطفة والغريزة والجماعة، وسيكون تعريفه للإنسان بأنه حيوان أو كائن إجتماعي. وفي التاريخ الثيولوجي والديني وصف للإنسان يدل على أنه مسلوب الإرادة، وأنه أكل من شجرة الخلد نتيجة إغوائه من قبل الشيطان، أي أنه استجاب لغريزته ولم يستجب لعقله وإرادته، وهذا يناقض الحديث الذي يقول :”أول ما خلقه الله هو العقل، فقال له أقبل فأقبل، وأدبر فأدبر”، والحديث الآخر :”ماخلق الله أكرم من العقل”.والتاريخ الديني سيعرف الإنسان، أيضاً، بأنه كائن إجتماعي وسيعطي الأولوية priorite للمعتقدات والعواطف والطقوس والتقاليد الجماعية على العقل والإرادة الفرديين. لذلك يلاحظ، اليوم، أن الجانب الجماعي للدين يغلب على الجانب الفردي، وأن أكثر التحريفات والشوائب والتشويهات في الدين تظهر في الجانب الجماعي حيث المعتقدات اللاعقلانية التي تقدّس أشخاصاً وتقدم الولاء لهم وترفعهم فوق الطبيعة والعقل وسائر البشر، وحالة القطيع والضجيج والإزعاج والجمود والتعصب والرياء َوالتحقير والضغط وقطع الأرزاق والإستغلال السياسي والحزبي والتجاري. وفي التاريخين، اللغة ظاهرة إجتماعية وهي مرتبطة بالوعي الجماعي conscience du groupe, collective mind أكثر مما هي مرتبطة بالعقل والإرادة الفرديين، والتفكير أو الكلام مع الذات ليس هو سبب اللغة بل التفكير الجماعي والإتصال والتواصل الإجتماعي la communication Social، فالتفكير أو الكلام مع الذات، الذي لايتوافق مع المعتقدات والنظريات والأنظمة والتقاليد السائدة هو كالعملة غير القابلة للصرف على أرض الواقع،ويواجه صاحبه صعوبات وعوائق ويتعرض لمحاولات التهميش والإقصاء والإنتقاص والحرمان.
الواقع الحاضر عالميا”وإقليميا” ومحليا”هو نتيجة مسار تاريخي بجزئيه الثيولوجي والديني، والطبيعي والعلمي، وكلاهما ينسبان لذاتهما الفضل في ماوصل إليه الإنسان من حضارة ومدنية، وفي اعتبارهما أفضل ما يمكن الوصول إليه رغم مايعتري هذه الحضارة والمدنية من تجاوز للعقل والإرادة الفرديين وانتهاكات للحرية الفردية والفكرية والعدالة والكرامة والراحة النفسية والأمن، و تفاوت في حظوظ البلدان والمجتمعات والأفراد في هذه الحضارة والمدنية بالمقارنة مع التخلف والفوضى والتعصب والتبعية والإستبداد والفقر والتفاوت الإقتصادي والإجتماعي والعنف والحروب بل إن هذه الحضارة في وجه من وجوهها دعمت الإستعمار والإحتلال والعنصرية والتعصب والتحزب والتفاوت الإقتصادي والإجتماعي وأنتجت حروبا”فتاكة ومدمرة وآخرها حرب الكيان الإسرائيلي أو الصهيوني ضد غزة، وهذا الكيان سمي في بداية إنشائه في فلسطين بأنه قاعدة متقدمة للحضارة الغربية في الشرق.
في لبنان، المسار التاريخي بجزئيه الثيولوجي والديني، والطبيعي أنتج ديموقراطية إنتخابية عددية طائفية حزبية عشائرية وارتباطا”بالخارج وإدارة واقتصادا” غير خاضعين لضوابط كافية ولمعايير الكفاءة والجدارة والنزاهة والحرية والإستقلال وغير عادلين، ما يؤدي إلى واقع سيء ومتخلف وصعب وأزمات متتالية آخرها الأزمة المالية النقدية الإقتصادية الإنمائية الحالية وارتفاع سعر الدولار الأميركي وانخفاض قيمة الليرة اللبنانية بنسبة 95 في المئة وانخفاض مستوى النمو الاقتصادي إلى مادون الصفر دون معالجات شاملة وعادلة وناجعة وطويلة الأمد.
أسامة إسماعيل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى